تقنية ثورية تحمي البيئة وتعزز قوة الخرسانة

باحثون يطورون تقنية جديدة للطباعة ثلاثية الأبعاد يتم فيها إدماج ثاني أكسيد الكربون والبخار في خليط الخرسانة أثناء الطباعة. هذه التقنية لا تعزز فقط من قوة الخرسانة بل تساعد أيضا في تقليل البصمة الكربونية لصناعة البناء.
لندن- الأسمنت المستعمل في الخرسانة مسؤول عن انبعاث 1.6 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنويا، وهو ما يعادل نحو 8 في المئة من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
حقيقة قد تكون غائبة عن معظمنا، معرفتها تسمح لنا بتقييم الخبر الذي أعلن عنه باحثون في سنغافورا، حيث ابتكر علماء من جامعة نانيانغ للتكنولوجيا بالاشتراك مع جامعة نوتنغهام ترنت في المملكة المتحدة تقنية ثورية للطباعة ثلاثية الأبعاد للخرسانة لا تعمل فقط على بناء هياكل قوية ومتينة، بل تتميز أيضا بقدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون، مما يفتح آفاقا جديدة للحد من الأثر البيئي السلبي لصناعة البناء.
وقد أوضح الباحثون في الدراسة التي نُشرت في المجلة العلمية “كاربون كابتشر ساينس آند تكنولوجي” أن التقنية تركز في معالجة مشكلة البصمة الكربونية الكبيرة للأسمنت، وهو مكون أساسي في الخرسانة.
تان مينج جين: قطاع البناء والتشييد يساهم بنحو كبير في انبعاثات غازات الدفيئة على مستوى العالم
وتعتمد هذه التقنية على إدماج ثاني أكسيد الكربون والبخار – وهما من المنتجات الثانوية للعمليات الصناعية – في خليط الخرسانة أثناء عملية الطباعة ثلاثية الأبعاد، حيث يتفاعل ثاني أكسيد الكربون مع مكونات الخرسانة أثناء الطباعة ثلاثية الأبعاد، مشكلا مركبا صلبا ومستقرا يظل محبوسا داخل الهيكل، ويعمل البخار بدوره على تعزيز امتصاص ثاني أكسيد الكربون، مما يعزز قوة المادة وقابليتها للطباعة.
وقد أكدت الاختبارات المعملية أن هذه التقنية الجديدة لا تحبس المزيد من الكربون فحسب، بل تُنتج أيضا خرسانة أقوى وأكثر متانة من الخرسانة المطبوعة ثلاثية الأبعاد التقليدية.
وأجريت دراسة معملية في مختبرات جامعة نوتنغهام ترنت في المملكة المتحدة، إذ خضعت عينات من الخرسانة المطبوعة ثلاثية الأبعاد والمُشبعة بالكربون لاختبارات تفصيلية، وكشفت النتائج عن تحسينات ملحوظة في جوانب متعددة، شملت تحسّنا في قابلية الطباعة، وأظهرت الخرسانة المُشبعة بالكربون تحسنا بنسبة بلغت 50 في المئة في قابلية الطباعة مقارنة بالخرسانة المطبوعة ثلاثية الأبعاد التقليدية، ويعني هذا التحسن إمكانية بناء هياكل خرسانية بسرعة وبدقة عالية، إذ يُمكن تشكيل الخرسانة بسهولة مع الحفاظ على شكلها أثناء عملية الطباعة، مما يقلل من احتمالية حدوث أخطاء أو تشوهات في الهيكل المطبوع.

◄ 50 في المئة نسبة التحسن في قوة الخرسانة المشبعة بالكربون مقارنة بالخرسانة التقليدية
التحسين الثاني في الخصائص الميكانيكية، فقد زادت قوة تحمل الضغط للهيكل المطبوع بنسبة بلغت 36.8 في المئة، ويعني ذلك أن الهيكل سيكون قادرا على تحمل أوزان أكبر دون أن ينكسر أو يتحطم، كما زادت مقاومة الانحناء (المرونة) بنسبة بلغت 45.3 في المئة، مما يجعل الهيكل أكثر مقاومة للصدمات والاهتزازات.
وكما ذكرنا جرى تحسن في زيادة امتصاص ثاني أكسيد الكربون وتخزينه، ويُعدّ هذا الجانب هو الأهم من وجهة النظر البيئية، إذ أظهرت التقنية الجديدة قدرة على امتصاص وتخزين نسبة بلغت 38 في المئة من ثاني أكسيد الكربون أكثر من طرق الطباعة ثلاثية الأبعاد التقليدية، ويعني ذلك أن الخرسانة تحولت من منتج مُسبّب للانبعاثات إلى منتج يساهم في تقليلها، مما يجعلها خيارا صديقا للبيئة بنحو كبير لمشاريع البناء المستدامة.
وتقدم هذه التقنية الجديدة بديلا أكثر استدامة لممارسات البناء التقليدية من خلال تقليل استخدام المواد ووقت البناء واحتياجات العمالة.
وقد أكد البروفيسور تان مينج جين، من كلية الهندسة الميكانيكية والفضائية في جامعة نوتنغهام ترنت ومركز سنغافورة للطباعة ثلاثية الأبعاد، والباحث الرئيسي في الدراسة، الأهمية الكبيرة لهذه التقنية، قائلا “قطاع البناء والتشييد يساهم بنحو كبير في انبعاثات غازات الدفيئة على مستوى العالم، وتقدم التقنية التي طورناها بديلا لتقليل الكربون ليس فقط من خلال تحسين الخصائص الميكانيكية للخرسانة، ولكن أيضا من خلال المساهمة في تقليل الأثر البيئي للقطاع.”
كما أوضح البروفيسور تان مينج جين إمكانية استخدام ثاني أكسيد الكربون الناتج عن محطات الطاقة أو الصناعات الأخرى في عملية الطباعة ثلاثية الأبعاد للخرسانة، وتُعدّ هذه النقطة بالغة الأهمية، إذ تحول هذه التقنية الجديدة المخلفات الصناعية، ثاني أكسيد الكربون، إلى مكون مفيد في صناعة البناء، مما يحقق فائدة مضاعفة، وهي التخلص من ملوث بيئي من جهة، واستخدامه في إنتاج مواد بناء صديقة للبيئة من جهة أخرى.
دانييل تاي: يُظهر نظامنا كيف يمكن أن يؤدي التقاط ثاني أكسيد الكربون واستخدامه في الطباعة الخرسانية ثلاثية الأبعاد إلى بناء مبان أقوى وأكثر صداقة للبيئة
ويؤكد الخبراء أن الطباعة ثلاثية الأبعاد ستشكل مستقبل البناء المستدام، ويأتي تطوير هذه التقنية في توقيت بالغ الأهمية، تتسابق فيه الصناعات في جميع أنحاء العالم لمواجهة تحديات تغير المناخ وتحقيق الأهداف الموضوعة للحد من آثاره.
وقد أكد الباحثون المشاركون في الدراسة أهمية هذا التوقيت وأهمية التقنية نفسها، إذ قال ليم شون جيب، مرشح الدكتوراه والمؤلف الأول للدراسة، “نحن في وقت حرج حيث يسرع العالم الجهود لتلبية أهداف تغير المناخ، ونعتقد أن تقنيتنا يمكن أن تساهم في جعل صناعة البناء أكثر استدامة.”
كما سلط الدكتور دانييل تاي، المؤلف المشارك في الدراسة والباحث في كلية الهندسة المعمارية في جامعة نوتنغهام ترنت، الضوء على الفوائد التي يقدمها هذا الابتكار، قائلا “يُظهر نظامنا كيف يمكن أن يؤدي التقاط ثاني أكسيد الكربون واستخدامه في الطباعة الخرسانية ثلاثية الأبعاد إلى بناء مبان أقوى وأكثر صداقة للبيئة، مما يؤدي إلى تقدم تكنولوجيا البناء.”
ويتطلع الباحثون إلى المستقبل بخطوات عملية ومحددة، إذ تقدموا بطلب براءة اختراع مشترك في الولايات المتحدة لتأمين الملكية الفكرية لهذا الابتكار. كما أكدوا أن أبحاثهم المستقبلية ستركز على تحسين عملية الطباعة لتحقيق كفاءة كبرى، واستكشاف استخدام الغازات المهدرة بدلا من ثاني أكسيد الكربون في عملية الطباعة، مما يزيد من الفوائد البيئية للتقنية.