تقريظ الحب
باستطاعة أفلام السينما، أن تدعونا إلى إعادة تعريف آخر لمشاعر راسخة وصائبة لفرط بداهتها. أتحدث عن “الحب”. فيلم “أسعد يوم في حياة أولي ماكي”، الذي عرض ضمن أفلام مهرجان قرطاج في دورته الأخيرة، هو أحدها. لطالما كنت موقنا أن الشعراء، هم الأكثر صدقا في الحديث عن “الحب”، حتى وإن كانت قصائدهم مليئة بالكذب. لم أعد أصدق الشعراء. تراءى لي الأمر غير ما قيل وما كنت أتصوره عن هذه التجربة الملتبسة، الملهمة، الشغوفة، الهائمة، العصية، الغامضة، التي يدعونها “الحب”.
“أسعد يوم في حياة أولي ماكي” فيلم فنلندي، بالأسود والأبيض، تدور أحداثة في بداية ستينات القرن الماضي، عن سيرة ملاكم فنلندي، يتأهل لخوض بطولة العالم في الوزن الخفيف مع ملاكم أميركي، الفيلم لا يهتم كثيرا بسيرة بطل رياضي، لكنه مناسبة لقول شيء مغاير عن الحب. قليلا ما ظهرت حلبة الملاكمة ضمن مشاهد الفيلم، لكن كثيرا ما نرى الشخصيات في فضاءات منزلية، في مناسبات اجتماعية، في لقاءات بسيطة، متكررة، بين أصدقاء، مليئة بالفكاهة والمرح.
لا مشاهد لأجساد في أماكن خاصة معتمة، حاشدة بالغريزة والبذاءة، كما الحال في أفلام هوليوود. لا خصومات، اتهامات بالغيرة والخيانات، لا صراخ وعويل ولطم للخدود، أو ذرف دموع غزيرة، ورمي أكداس من المناديل الورقية على الأرض، كما درجت عليها تلك الأفلام المصرية، المولعة بالفجاجة والبلاهة.
ما يجمع البطل “أولي” بحبيبته، حوارات قصيرة، وكلمات مختصرة عن أشياء يومية عدة، ليس الحديث العاطفي من ضمنها، لكن ثمة القليل من النظرات الوادعة المتبادلة بينهما. الذهاب لممارسة رمي الحصى لأكثر مسافة ممكنة على سطح البحيرة، ينتهي بضحكات هانئة، ومن ثم صمت يرافقهما أثناء عودتهما إلى الدار التي يسكناها مع عائلة مدربه ومدير أعماله، شيء من الدعة والألفة الغامرة تحمي حضورهما المشترك، والذي تجتهد جماليات التصوير بالأسود والأبيض في تكثيف مشاهده.
تكشف العاطفة عن مفارقتها، حينما يعترف “أولي”، الأفندي، بصوت خفيض، لمدربه قبل أيام من النزال بوقوعه في “الحب”، لم يفهم هذا المدرب ماذا يعني الوقوع في الحب قبل خوض نزال عالمي للملاكمة بأيام.
“أولي” يخسر نزاله بشكل قاس، أمام حبيبته التي راقبته من مدرج بعيد في الملعب. هي لم تبك فيما هو يبدو غير مهتم بخسارته، لكنه يخبرها أثناء سيرهما معا في طريق العودة، بأنه قد انتصر، لم تجبه، ذهبا معا إلى رمي الحصى على سطح البحيرة ضاحكين. يدلنا الفيلم على أن للحب تفسيرا آخر، هو غير التملك، ليس بعاطفة أنوية وفردية متعالية، بل بانتصار لحياة تدعو الخاص فينا كي يكتمل. الفيلم توج بجائزة أفضل فيلم بتظاهرة في مهرجان كان السينمائي. عند صعود مخرجه الشاب لاستلامها، حيا لجنة التحكيم قائلا “شكرا لذائقتكم العجيبة في السينما”.