تفكيك عقدة النقاب في السعودية

الثلاثاء 2014/12/16

منذ سنوات والشيخ أحمد الغامدي يثير الجدل المجتمعي في السعودية حول قضايا دينية متعددة تواطأ الناس عليها من أهمها حجاب المرأة ونقابها، أو تغطيتها لوجهها على وجه خاص. في المرة الأولى قال إن الاختلاط مباح، فهبت عواصف من كل حدب وصوب. ووصلت هذه العواصف إلى بابه الذي طرقه بعض السفهاء يطلبون الاختلاط بنساء بيته، ويهددونه بمواقفهم المضادة والحادة من فتواه التي لم تكن متوقعة من شيخ بلحية كثة كان يرأس جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة.

وقد ظل الشيخ على موقفه الذي شفعه بالأدلة والبراهين من كتب السلف، بل زاد عليه بأن الموسيقى ليست حراما، وأن الصلاة في المسجد سنة، وأنه لا يوجد حديث صريح بوجوب صيام يوم عرفة. وأخيرا ألقى الغامدي حجرا ثقيلا في بئر المجتمع السعودي الراكدة، جراء ما فعلته سنوات ما يسمى الصحوة في المجتمع وتفريغه من إرادة الاختلاف والتفكير الحر، بعد أن سيطرت على منابر المساجد والإعلام أصوات لا تريد أن يرى الناس غير ما ترى أو تعتقد.

هذا الحجر الثقيل الذي فاجأ دويّه الناس، ظهور أحمد الغامدي مع زوجته في برنامج تلفزيوني تعده وتقدمه الكاتبة والإعلامية السعودية بدرية البشر، حيث دار الحوار مجددا، بحضور الزوجة الكاشفة لوجهها، عن أن لحجاب المرأة المسلمة صفات مختلف عليها بين أئمة وعلماء المسلمين عبر الأزمان. ومن بين هذه الصفات أن تُظهر وجهها وكفيها. حدث ذلك في الوقت الذي كانت جماعات بعينها تواصل، قبل هذا البرنامج التلفزيوني وبعده، إرسال رسائل مصورة ومصممة على (الفوتوشوب) توضح صفة حجاب المرأة الشرعية القطعية من وجهة نظرها. تلك الصفة التي تتمثل إجمالا بكيس أسود يغطيها بخشونة واضحة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها.

وما يرعب الناس الذين لا يوافقون على هذا التنطع في صفة حجاب وغطاء المرأة، أن من يرسلون هذه الآراء والصور يمارسون عنفا لفظيا يسحق كل رأي مخالف لهم. ومن أمثلة هذا العنف اللفظي أن يوصف من يعترض على آرائهم أو يناقشها بـ”الديوث” أو فاقد المروءة أو الشخص الذي لا تتشرف قبيلته أو أسرته بانتسابه إليها. أي أن سهامهم تتوجه صوب حضورك الاجتماعي، والطعن فيه بغلظة ووقاحة مقصودة لصدك عن تسفيه آرائهم والتقليل من أهميتها.

هذه السهام توجه، تقليديا، إلى الليبراليين والمتنورين في المجتمع، الذين وسعهم في السنوات الأخيرة، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، أن يُشرحوا خطاب (الصحوة) تجاه المرأة وموقفه الرافض لإحقاق حقوقها وتمكينها من ممارسة الفعل الوطني والاجتماعي الحقيقي. ومن خرج من المحافظين على الأفكار السائدة وطالب بحقوق المرأة الناقصة أو المغيبة كان يُلحق، وإن على استحياء، بصفوف الليبرالية، التي أصبحت شماعة يعلق عليها المتشددون مواقفهم من التيارات المضادة.

لذلك كان الفزع من ظهور الشيخ أحمد الغامدي مع زوجته في برنامج تلفزيوني على قدر الصدمة، إذ كان هذا التصرف متوقعا أو غير مستغرب ممن يُحسبون على التيارات غير الدينية. أولئك الذين، كما يزعم التيار المتشدد، يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا وتغريبا على حد زعمهم. أما وقد حدث ما حدث من رجل دين معروف وعلى رؤوس الأشهاد، فإن الأمر لم يعد قاصرا على تعليق مشانق العنف اللفظي لليبراليين ومن يؤيد مواقفهم ورؤاهم.

تجاوز الأمر، بعد هذا الظهور الحدث، حدود المناوشات التاريخية بين التيارات المتصارعة على المرأة في المجتمع السعودي إلى تسجيل واحد من المدرسة السلفية موقفا، بالقول والفعل، يضاد ما استقر في أذهان الناس عن حجاب المرأة. وهو، أيضا، لم يسجل هذا الموقف المهم لأنه مقتنع به على المستوى الشخصي ومن حقه أن يفعله بغض النظر عن آراء الآخرين، بل ساق استشهادات تصعب على الحصر، ومن نفس مراجع هذه المدرسة، على جواز كشف المرأة لوجهها، كما ساق من قبل أدلته على جواز الاختلاط وعلى كل مسألة طرحها وفند فيها مواقف وآراء التيار المتشدد.

هذا الموقف الجديد والمثير اجتماعيا، الذي فك عقدة كبرى من عقد صفة حجاب المرأة، سيكون له ما بعده بعد أن تداول الناس جميعا ما حدث وأثاروا نقاشا ساخنا حوله أدى، في جزء منه، إلى خلق وعي جماهيري جديد بأن كثيرا من المسائل مختلف عليها، ليس في عصرنا فقط، بل في عصور سابقة وبين أئمة المذاهب الأربعة وأئمة آخرين معاصرين. وهذا يبطل، بالضرورة، مفعول النصوص والفتاوى القطعية الحديثة التي اعتبر الناس ما تورده من ثوابت الدين التي لا يجوز الاختلاف والنقاش حولها.

من ناحية أخرى أسقط هذا الموقف كل الاجتهادات الفردية، التي تصدر من متبرعين بالفتوى وصفات الحجاب أو النقاب، لأن الناس سيسمعون من الآن وصاعدا آراء مختلفة وموثقة بالأدلة الشرعية من مشائخ فتح لهم الشيخ أحمد الغامدي الطريق ليكونوا أكثر جسارة على طرح آرائهم في المسائل التي تشغل بال المجتمع السعودي، ليس فيما يخص المرأة وحجابها فقط، بل في كل مسألة حولها أخذ ورد، ولم يجرؤ أحد على فتح ملفاتها خشية النفي الاجتماعي الذي طالما لوح به تيار المتشددين.

نحن إذن أمام حالة سعودية تعاد فيها قراءة واقع المجتمع والمرأة السعودية من جديد. وما يؤيد هذه القراءة ويحث عليها أن الناس في أغلبهم أصبحوا أكثر استعدادا لقبول الآراء المختلفة مهما كانت درجة حدتها أو درجة تضادها مع ما تعارفوا عليه. وهذا ثابت من خلال ردود الفعل التي تابعها الجميع على منصات التواصل الاجتماعي بعد ظهور الشيخ أحمد وزوجته على التلفزيون، والتي أزعم أنها راوحت بنسب متقاربة بين التأييد والرفض لموقفه.

يتبقى أن أقول بأن ما اقتنع به الشيخ أحمد وزوجته واستقياه من مدرسة فقهية معينة لا يلغي حق أحد بأن يختلف معهما أو مع من يؤيدهما طالما أنه مقتنع برأي مدرسة فقهية أخرى، إذ أن المسألة، بداية ونهاية، ليست إلزام بالرأي أو عسف لاتخاذ موقف مماثل. كل ما في الأمر أن تفتح أبواب الاختلاف على مصاريعها لتدخل رياح التغيير، وليعرف الناس ما خفي عنهم في بطون الكتب وصدور العلماء.


كاتب سعودي

9