تفاهمات ممكنة بين مصر وتركيا حول ليبيا

تراجعت الخلافات المعلنة بين مصر وتركيا حول ليبيا منذ عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، ولم يحدث تباين واضح يشير إلى عودة التوتر مرة أخرى، واكتفى الطرفان بقاعدة عدم الإضرار بمصالح الآخر في ليبيا، إلى أن سقط نظام بشار الأسد في سوريا، وبعدها حصلت القاهرة على معلومات بانتقال عدد من العناصر المتطرفة من سوريا إلى ليبيا، بوساطة تركيا، ما أزعج الحكومة المصرية، وأشعرها أن أنقرة توظف هذه العناصر لأهداف أمنية وسياسية، تؤدي لتكرار سيناريو سوريا في ليبيا.
قدمت أنقرة تطمينات للقاهرة أخيرا، من خلال اجتماعات اللجنة المشتركة التي عقدت بين البلدين في تركيا، الاثنين، وضمت مسؤولين كبارا فيهما، وحاولت التنصل من أي علاقة لها بالمتطرفين الذين ذهبوا إلى ليبيا أو يمكن أن يذهبوا إليها من سوريا لاحقا.
وألمحت إلى عدم تمسكها بحكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة، إذا توصل الليبيون إلى حل يقودهم إلى عقد الانتخابات المؤجلة منذ سنوات، واختيار حكومة محايدة تشرف عليها، وتقود إلى استقرار البلاد.
شعر الدبيبة بتغير في الموقف التركي منه عقب قرار أنقرة بتسيير ثلاث رحلات أسبوعيا إلى مطار بنينا الدولي في بنغازي، حيث فهم أنها إشارة لانفتاح جديد على قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وأن تركيا غيرت أو على وشك أن تغير حساباتها السياسية من حكومة الدبيبة في طرابلس.
إذا كانت التفاهمات ممكنة بين مصر وتركيا في ليبيا، فإن العقبة الرئيسية تكمن في أن جزءا مهما من أوراق ليبيا تتحكم فيه قوى دولية، لها نفوذ ومصالح تدافع عنها، ولا تعتد بأي قواسم تصل إليها القاهرة وأنقرة
لا يعني الانفتاح على شرق ليبيا تخفيف الارتباط بالغرب الليبي، بل يشير إلى محاولة تحقيق مكاسب مع الفريقين، وهو ما يقلق مصر أو يطمئنها. يأتي القلق من البراغماتية التركية التي تريد مد نفوذها إلى الشرق بنعومة من خلال الاقتصاد وما تملكه من مزايا تجارية تفضيلية، على أمل أن تكون هذه الخطوة قاطرة للأمن والسياسة، بما يؤثر سلبا على النفوذ التقليدي لمصر في شرق ليبيا.
وينحدر الاطمئنان نسبيا من تخلي تركيا عن أدواتها الخشنة في التعامل مع معسكر الشرق، حيث تعلم طبيعة الجغرافيا السياسية فيه، وما تفرضه من مصالح مع القاهرة.
تبدو تصورات تركيا التي وصلت إلى المصريين أنها غير مستعدة للتفريط في ما وصلت إليه العلاقات معهم من تحسن، وتسعى لتطوير هذه المسألة حيال ملفي سوريا وليبيا، وهما مرتبطان من زاوية أن أنقرة تمثل قاسما مشتركا بينهما، ومصر لديها رؤية بعيدة عن تركيا فيهما، وتحتاج من أنقرة تحركات عملية تبعد شبح القلق مما يمكن أن ينجم من تداعيات في ليبيا، مع أن القاهرة وصلت إلى صيغة ضمنية بشأن ليبيا مع أنقرة تؤكد على “لا ضرر ولا ضرار”، إلا أن الوضع في سوريا مختلف.
وجه الاختلاف يأتي من وجود سلطة بقناع إسلامي واضح في دمشق، بينما هذا القناع غير ظاهر بقوة في طرابلس، والبُعد الجغرافي؛ فالأهمية الحدودية الإستراتيجية التي تمثلها ليبيا لمصر لا تقل عن تلك التي تمثلها سوريا بالنسبة لتركيا، وهذه العلاقة العكسية ربما توجد نوعا من التقارب بينهما، على أساس المصالح المشتركة، وما تكنه كل دولة (سوريا وليبيا) للأخرى (مصر وتركيا)، وهي نقطة عملت على تفعيلها اجتماعات اللجنة المشتركة الثلاثية التي عقدت في القاهرة وأنقرة مؤخرا.
تتفوق تركيا على مصر في هذه المعادلة الدقيقة بسبب امتلاكها حضورا كبيرا وتأثيرا قويا في كل من سوريا وليبيا، بينما ينحصر الحضور المصري الملموس في ليبيا فقط، وموقفها لا زال بعيدا عن الحكومة في دمشق، ما يمنح أنقرة تفوقا في إدارة اللعبة مع القاهرة، ولم تقدم الأولى حتى الآن ما يقنع الثانية بتغيير التوجهات في ليبيا.
كل ما حصلت عليه مصر يكمن في تطمينات لفظية، تسعى لتطويرها إلى خطوات بالتنسيق والتعاون مع تركيا لإجراء الانتخابات المعطلة واختيار قيادة ليبية جديدة، وفك الارتباط صراحة مع حكومة الدبيبة، بالتالي رفع الغطاء العسكري وشبكة الأمان السياسية عنها، التي ساعدت الحكومة المنتهية ولايتها على البقاء في موقعها.
تشعر تركيا بأنها تملك دورا مؤثرا في ملفات إقليمية عديدة، تتقاطع فيها مع مصر، ففضلا عن سوريا وليبيا هناك السودان والصومال وإثيوبيا، وما ينطوي عليه الحضور التركي من انعكاسات، سلبا أو إيجابا، في كل منها على مصالح القاهرة، وتدير الاجتماعات مع أنقرة وفقا لدور تركيا في كل هذه القضايا.
روسيا لاعب مهم على الساحة الليبية، وعلاقتها إيجابية مع القاهرة وأنقرة، لكن وجودها له انعكاسات مباشرة على أي تفاهمات بينهما تخل بما تريده موسكو من أهداف عسكرية في ليبيا
ناهيك عن ملف شرق البحر المتوسط، الذي قد يتصاعد موقعه ويعود إلى السطح، إذا نفذت تركيا تصوراتها بشأن التعاون مع القيادة السورية الجديدة حول الاستفادة القصوى من مخزون الغاز في منطقة شرق المتوسط، وهو يمثل أهمية فائقة لأنقرة، وكان أحد مصادر التوتر بينها وبين القاهرة في السنوات الماضية.
قد تكون التفاهمات حيال ليبيا حلقة سهلة للبلدين، لأن الخلافات السابقة بينهما بدت منضبطة إلى حد كبير ولم تتجاوز التصرفات التركية الخط الأحمر الذي حددته القيادة المصرية، وتمت إدارة العملية السياسية بهدوء، ولم يتعمد كلاهما مضايقة الآخر، وزاد التعاون بينهما مع عودة العلاقات الدبلوماسية، والتي لم ترق إلى المستوى الذي تتمناه القاهرة، حيث تعول على أن تفضي اجتماعات اللجان المشتركة إلى نتيجة ملموسة.
إذا كانت التفاهمات ممكنة بين مصر وتركيا في ليبيا، فإن العقبة الرئيسية تكمن في أن جزءا مهما من أوراق ليبيا تتحكم فيه قوى دولية، لها نفوذ وتأثير ومصالح تدافع عنها، ولا تعتد بأي قواسم تصل إليها القاهرة وأنقرة، في العملية السياسية المتعلقة بحسم ملف الانتخابات والجهات الفاعلة فيها، والحصول على جزء من كعكة الاقتصاد ممثلة في المشروعات السخية لإعادة الإعمار في ليبيا، لأن النفط والغاز محسوم أمرهما في أيدي قوى كبرى، ولا تستطيع مصر وتركيا تغيير معادلتها التقليدية.
علاوة على أن روسيا لاعب مهم على الساحة الليبية، وعلاقتها إيجابية مع القاهرة وأنقرة، لكن وجودها له انعكاسات مباشرة على أي تفاهمات بينهما تخل بما تريده موسكو من أهداف عسكرية في ليبيا، حيث تنظر إليها باعتبارها قاعدة خلفية مهمة لها في جنوب البحر المتوسط، بعد الضربة القوية التي تلقتها في سوريا، وما تسببت فيه من تعظيم لأهمية ليبيا في الإستراتيجية الروسية نحو أفريقيا.
ولا تغيب هذه الحسابات عن اجتماعات مصر وتركيا، ما جعل جزءا كبيرا منها ينصب على عدم تقريب المسافات بينهما، وتجنب عودة أنقرة للاستثمار في توظيف جماعات الإسلام السياسي والعنف والتطرف في ليبيا، وما يمثله ذلك من ارتدادات أمنية على مصر، والتي لديها هواجس من تركيا، ويحتاج تعديل موقفها من إدارة هذا الملف إلى صيغة جديدة، الأمر الذي يجعل القاهرة لا تفصل كثيرا موقف أنقرة عن متشددي ليبيا، فهي الحلقة التي تتحكم في مفاتيحهم.