تغير السلوك الاستهلاكي يؤثر سلبا في تدبير موازنات الأسر المغربية

44 في المئة من الأسر أنفقت مدخراتها أو لجأت إلى الاقتراض خلال العام الماضي.
الجمعة 2022/01/21
كلما رشدت الأسر نفقاتها إلا وتجاوزت فخ السقوط في التداين

يشير خبراء علم الاجتماع إلى أن التغير المجالي والاجتماعي الذي عرفه ويعرفه المغرب، والانفتاح على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، أثرا بشكل مباشر على السلوك الاجتماعي لأفراده وعلى نمطهم الاستهلاكي، ما أثر على موازنة أسرهم التي تعلب المرأة دورا أساسيا في التحكم فيها. ويرى الخبراء أنه إذا كانت المرأة قادرة على عقلنة عملية الاستهلاك بما يتماشى مع موارد الأسرة المالية، فذلك من شأنه أن يجنب الأسرة الوضعيات الإكراهية التي يمكن أن تطرأ عليها.

تختلف الأسر المغربية في طريقة تدبير موازناتها حسب إراداتها وطريقة تفاعلها مع النمط الاستهلاكي السائد في المجتمع، المعتمد أساسا على سطوة الإعلانات، إذ هناك من الأسر من تحسن التدبير ومنها من تسيئه، ومنها أيضا من لا تعرف شيئا غير التقشف.

وتجد الأسر التي تعتمد على راتب شهري قار ولا تحسن تدبير الميزانية، نفسها في نهاية كل شهر في مأزق حقيقي، فعندما تتجاوز أرصدتها تضطر إلى الاقتراض لتلبية الحاجيات اليومية.

وتعتقد ابتسام الزاهر، المتخصصة في التاريخ الاجتماعي ومقاربة النوع الاجتماعي، أن هناك العديد من العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر في السلوك الاستهلاكي وبالتالي في تدبير ميزانية الأسرة، منها على سبيل المثال لا الحصر، المستوى التعليمي للمرأة الذي كلما ارتفع إلا وارتفع معه مستوى الاستهلاك، وعمل المرأة من عدمه يؤثر أيضا على مستوى الاستهلاك.

ولفتت الزاهر في تصريح لـ”العرب” إلى أن المرأة العاملة قد يكون مستوى استهلاكها أكثر من غير العاملة، وأنه كلما ارتفع مستوى دخل الأسرة إلا وارتفع معه مستوى الاستهلاك، وطبيعة الأمكنة التي تقصدها الأسرة للتسوق، إذ منها ما يجعل مستوى الاستهلاك مرتفعا مثل الأسواق التجارية الكبرى، وهذا بدوره يرتبط بثقافة الأسرة ومستوى دخلها.

الأسر التي تعتمد على راتب شهري قار ولا تحسن تدبير الميزانية، تجد نفسها في نهاية كل شهر في مأزق حقيقي

وأكد الدكتور لحسن دحماني، الباحث في علم الاجتماع، أن التغير المجالي والاجتماعي الذي عرفه ويعرفه المغرب، وانتشار الوسائل التكنولوجية والانفتاح على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، أثر بشكل جلي على السلوك الاجتماعي والاقتصادي وعلى رؤية الأفراد إلى العالم، خاصة في المجالات الحضرية الكبرى وضواحيها التي ترتبط ارتباطا شديدا بالإعلانات لمنتجات استهلاكية مختلفة، موجهة لكافة الشرائح الاجتماعية.

وقال دحماني لـ”العرب” إن الاستهلاك التفاخري أصبح سائدا عوض الاستهلاك الحاجياتي كأمر يرتبط بسد النقص الحاصل على مستوى الحاجيات الأساسية للبقاء، كما أن تسليع الرغبة أدى إلى إدمان ما يسمى بـ”التسوق” على أنه أساس الحياة والوجود الفردي والأسري، كما أن ترسيخ أهمية المظهر على حساب الجوهر أصبح هو أساس الحكم على الأسر وأفرادها.

وعلى المستوى الإحصائي أكدت المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية)، أن أكثر من 44 في المئة من الأسر المغربية أنفقت مدخراتها أو لجأت إلى الاقتراض خلال العام الماضي، فيما صرّحت أكثر من 54 في المئة من الأسر بأن وضعيتها المالية تدهورت خلال سنة 2021، ولا يتجاوز معدل الأسر التي تمكنت من ادخار جزء من مداخيلها 3.9 في المئة.

ويتم حساب مؤشر ثقة الأسر على أساس 7 مؤشرات تتعلق أربعة منها بالوضعية العامة، في حين تخص البقية الوضعية الخاصة بالأسرة وهي التطورات السابقة لمستوى المعيشة، آفاق تطور مستوى المعيشة، آفاق تطور أعداد العاطلين، فرص اقتناء السلع المستديمة، الوضعية المالية الراهنة للأسر، التطور السابق للوضعية المالية للأسر والتطور المستقبلي للوضعية المالية للأسر.

وهناك أسر تكون الأم فيها هي التي تقوم بالتسوق نظرا لانشغال الوالد، ونظرا لأن الأم هي المكلفة بإعداد الوجبات في ظل غياب كل أفراد الأسرة أوقات العمل والدراسة، ولاعتبارات أسرية واجتماعية لكون المرأة أضحت تقوم بأدوار كبيرة داخل الأسرة، وتقوم مقام الأب في بعض الأحيان لأسباب متعددة تمنعه من توفير مورد مالي.

وتعتقد الزاهر أن الأسرة المستقرة اجتماعيا واقتصاديا يكون مستوى الاستهلاك عندها مرتفعا، عكس الأسر التي تديرها المرأة الأرملة أو المطلقة، إذ تختلف طريقة تعامل كل أسرة مع مسألة الادخار ومدى أهمية ذلك بالنسبة إليها، حيث نجد بعض الأسر التي تعتمد أسلوب الادخار يكون مستوى استهلاكها أقل من الأسر التي تفضل الاستمتاع بالحياة من سفر وأكل وشرب ولباس وغيرها.

وأشارت الزاهر إلى أن تقليد بعض الأسر المغربية لأسر أخرى في نمط العيش قد يكون له أثر في ارتفاع مستوى الاستهلاك، إضافة إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في حياة الأسرة من حيث التفاخر على هذه المواقع وعرض الصور عند السفر والسياحة والأكل واقتناء الحاجيات، كل ذلك قد يجعل مستوى الاستهلاك مرتفعا عند بعض الأسر التي نجدها تمارس ضغوطات على نفسها، فقط من أجل مسايرة هذا التسابق الذي أصبحنا نلاحظه في هذه المواقع.

وانتقل مستوى المعيشة الفردي سنويا، الذي تم قياسه بمتوسط الاستهلاك السنوي للسلع والخدمات المقتناة من طرف الأسر المغربية، من 15.900 درهم سنة 2013 إلى 20.389 درهم سنة 2019، وقد كان هذا التحسن عند السكان الحضريين والقرويين على حد سواء، حسب تقرير صدر في مارس 2021 عن المندوبية السامية للتخطيط.

تقليد بعض الأسر المغربية لأسر أخرى في نمط العيش قد يكون له أثر في ارتفاع مستوى الاستهلاك

ومسّت عادات الاستهلاك كلا من الطبقة المتوسطة والفقيرة، التي بدورها تأثرت بإعلانات عروض التخفيضات سواء في ما يُسمى بـ”الجمعة السوداء”، أو نهاية السنة وبدايتها، ما يجعل الأسر أمام إغراء تلبية تلك الرغبة في الاستهلاك، والإقدام على قروض من المؤسسات البنكية تنهك قدرتها على الادخار وتؤثر على تماسك الأسرة وصمودها.

ونتيجة للنمط الاستهلاكي غير المعقلن تحصل الأسر المغربية على القروض الاستهلاكية بنسب مرتفعة، وفق تأكيدات الجامعة الوطنية لحماية المستهلك، حيث نسب الفوائد المطبقة على القروض الموجهة إلى الأسر تظل مرتفعة بشكل فاحش، ولا تتماشى مع منطق حماية مصالح الحرفاء، بل يمتد ذلك إلى السلفات الصغرى التي تستهدف الأسر الفقيرة ومحدودة الدخل، والتي تبلغ نسبة فائدتها السنوية ما بين 26 و30 في المئة.

ويعتبر دحماني أن انفتاح الأسر على المؤسسات الخاصة، وتنافسيتها في الولوج إليها، جعل العديد من الأسر تدخل غمار السلف البنكي بكل أنواعه، ضمن الدوامة الاستهلاكية ذات البعد التفاخري، ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى أزمات اقتصادية تنعكس سلبا على التماسك الأسري، وتتسبب في بروز مشكلات اجتماعية أخرى.

وأوضح أن طريقة تدبير البيت تؤثر بشكل إيجابي أو سلبي على الموازنة، فهي سلاح ذو حدين، خاصة من طرف المرأة، فإذا كانت المرأة المغربية منساقة وراء الاستهلاك التفاخري المقترن بالمقارنات الاجتماعية بين أسر في بداية تأسيسها وأسر قطعت شوطا كبيرا في مسار البناء، وعدم قدرتها على التدبير العقلاني لموارد الأسرة الشهرية، يمكن أن تؤدي هذه الوضعية إلى فتور عاطفي بين الزوجين، لينعكس ذلك على جميع أفراد الأسرة.

ويرى دحماني أن المرأة إذا كانت قادرة على عقلنة عملية الاستهلاك بما يتماشى مع موارد الأسرة المالية، بل وتعمل على الادخار كنوع من الاستشراف المستقبلي لوضعيات إكراهية قد تطرأ على الأسرة، فإن هذا الأمر ينعكس بشكل إيجابي، إضافة إلى عوامل أخرى، على استقرار الأسرة المادي والعاطفي أيضا.

17