تعقيدات المستنقع السوري تبرز الحاجة لدهاء كيسنجر

واشنطن- هناك ضجة دولية حول إضفاء الطابع السياسي على العقوبات الاقتصادية والمساعدات الأميركية في سوريا، ولكن ليست هناك استراتيجية أميركية شاملة، وثمة تساؤل يثار بشأن جوهر سياسة الولايات المتحدة بالنسبة للبلد، بخلاف العقوبات.
وبينما استهدفت العقوبات الأميركية السابقة الحكومة السورية بشكل أساسي، فإن القانون الجديد يعاقب أفرادا ومؤسسات وشركات سواء سورية أو أجنبية من الذين يدعمون الأنشطة العسكرية في سورية من جانب حلفاء الأسد (روسيا وإيران وحزب الله اللبناني) الذين يساعدون الحكومة في قتال جماعات المعارضة.
وقالت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة كيلي كرافت الثلاثاء إن الولايات المتحدة تعتزم فرض عقوبات تهدف إلى منع الرئيس السوري بشار الأسد “من تحقيق انتصار عسكري” وإعادته إلى المحادثات التي تقودها الأمم المتحدة، في تصريحات تعكس تناقض السياسة الأميركية تجاه سوريا.
إصرار الصين وروسيا على تحدي الولايات المتحدة في سوريا يخفف الضغط الأميركي أيضا. كما أن الإحباطات الأوروبية تجاه الولايات المتحدة وتركيا سوف تفيد مصالح دمشق
ويشير المحلل العسكري السوري كمال علام إلى أن التصريحات الأميركية المتناقضة قد تزايدت، كما تذبذبت الولايات المتحدة ما بين المطالبة في أول الأمر بعزل بشار الأسد والإعلان في وقت لاحق أنها لا تسعى إلى تغيير النظام. ومع ذلك، أعلنت واشنطن في شهر يونيو الماضي عن قانون قيصر الجديد لحماية المدنيين في سوريا كوسيلة لتحقيق تحول سياسي.
ويستهدف القانون كبار المسؤولين ورجال الأعمال السوريين وكذلك أي طرف ثالث يريد ممارسة أي نشاط تجاري مع سوريا. وهو يهدف لردع الصين، وغيرها من الدول من أن تصبح المنقذ الاقتصادي للبلاد.
ويرى علام في تقرير نشرته مجلة “ذا ناشونال إنتريست” أن قانون قيصر يعتبر برنامج العقوبات الأكثر شمولا في التاريخ، وسيكون له تأثير اقتصادي كبير على سوريا وعلى الدول المجاورة لها، خاصة لبنان. وأحد الأهداف الرئيسية لقانون قيصر هو تحميل الجيش السوري والحكومة السورية المسؤولية عن تصرفاتهما.
ولا يمكن القول إن الجميع مقتنعون بقانون قيصر؛ فحلفاء أميركا في أوروبا والشرق الأوسط تساورهم الشكوك إزاء الحكمة من وراء هذا القانون. وترى دول مثل مصر، واليونان أن الحكمة تكمن أكثر في دعم سوريا كسياج واق ضد العدوان التركي في البحر المتوسط.
وتحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة دراسة سياستها الخاصة بسوريا وأن تدرك الأولويات المختلفة لحلفائها، وإلا فقد تراهم ينفصلون عن سياستها. وفي حقيقة الأمر، تحتاج الولايات المتحدة إلى تبني سياسة واقعية في سوريا، تعكس السياسات التي نفذها مسؤولون بارزون خلال عهدي الرئيسين نيكسون وريغان عندما تفاوضوا معها.
وبينما يعتقد ممثل الولايات المتحدة الخاص لدى سوريا جيمس جيفري والمبعوث لخاص لسوريا جويل ريبورن أن بإمكانهما عزل سوريا من خلال قانون قيصر، من الواضح أنهما تجاهلا الأولويات المتغيرة في المنطقة. وليس سرا أن جيفري يدعم تركيا ويظهر تعاطفه معها علانية، في وجه تيار متصاعد من الغضب معارض لتركيا ولتصرفاتها في سوريا، وليبيا والبحر المتوسط والقرن الأفريقي.
وبالمثل، فإن روسيا والصين تتحدان للاعتراض على قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بسوريا، وتسخران في الوقت نفسه من قانون قيصر بالمضي قدما في خططهما الاقتصادية الخاصة بها.
ومع تزايد عداء الولايات المتحدة تجاه الصين بعد جائحة كورونا، تبذل بكين ما بوسعها لتتحدى أهداف الولايات المتحدة في سوريا. وهناك خطة روسية صينية مشتركة خاصة بسوريا يتم إعدادها منذ عام 2018 وسوف يتم تسريعها بعد الإعلان عن قانون قيصر.
كما أن الدول الأوروبية تظهر استعدادا للانفصال عن موقف الولايات المتحدة بالنسبة لسوريا. فهناك عدد من الآراء السياسية في مراكز الأبحاث الأوروبية التي تتوافق رسميا مع الاتحاد الأوروبي، وتدعو إما إلى إعادة النظر في العقوبات، وإما الانفصال تماما عن سياسة الولايات المتحدة الخاصة بفرض إجراءات عقابية على دمشق.
ويقول علام إنه يمكن تعلم الكثير من دبلوماسية هنري كيسنجر تجاه سوريا. ففي كتاب “كيسنجر المفاوض” يشير مؤلفه جيمس سبينيوس، إلى أن الدرس الواضح الذي يمكن استخلاصه هو أن كيسنجر كان يعتقد أنه فقط من خلال المفاوضات تستطيع الولايات المتحدة تحقيق تقدم بالنسبة لسوريا. كما أن موشيه ماعوز، في كتاب “أبوالهول دمشق” اقتبس أسلوب كيسنجر في ما يتعلق بالتفاوض معها.
يمكن تعلم الكثير من دبلوماسية كيسنجر الذي يعتقد أنه من خلال المفاوضات فقط تستطيع الولايات المتحدة تحقيق تقدم بالنسبة لسوريا
وأكد علام حقيقة أن سوريا تخلصت من جميع المصائب الكبرى التي واجهتها منطقة الشام والخليج خلال الخمسين عاما الماضية رغم أنها كانت دائما في الجانب المعارض للولايات المتحدة. واضطرت الولايات المتحدة، على مضض، لإفساح الطريق لدمشق في لبنان، وحتى أرغمت الإسرائيليين على الانسحاب في عام 2000. كما تعين على الولايات المتحدة الاعتراف بأهمية سوريا في ما يتعلق بالتفاوض في أوسلو وكامب ديفيد.
ويشير كتاب عن الدبلوماسية مع سوريا في عهد ريغان، يحمل عنوان “ملعون صانع السلام”، أنه كان كل تأكيد الولايات المتحدة على الدبلوماسية الخاصة بسوريا هو حقيقة أنه بينما كان رونالد ريغان يمقت التحدث مع الأسد، مثل كيسنجر قبله، لم يكن أمامه خيار آخر سوى حسم القضايا العالقة بالتحدث معه، وليس عزله.
وفي ختام تقريره، يقول علام إن كيسنجر يرى أنه من الأفضل التحدث مع دمشق، كما يرى ذلك صانعو سياسات الأمن القومي الأميركيون البارزون الذين لديهم تجربة فعلية في التحدث مع سوريا طوال الأربعين عاما الماضية.
وبالمثل، فإن إصرار الصين وروسيا على تحدي الولايات المتحدة في سوريا يخفف الضغط الأميركي أيضا. كما أن الإحباطات الأوروبية تجاه الولايات المتحدة وتركيا سوف تفيد مصالح دمشق. وهناك درس واحد من كل هذا وهو: التهديدات والعقوبات لا تنجح مع سوريا.