تطوران متناقضان وكاشفان لشكل العلاقة بين واشنطن والقاهرة

يختزل البعض شكل العلاقة بين الإدارة الأميركية الجديدة في عهد الرئيس دونالد ترامب والإدارة المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، في الصورة الإيجابية التي ظهرت خلال الفترة الرئاسية الأولى لترامب، وجعلت علاقته بالسيسي جيدة إلى حد بعيد، لكن ما رشح من معلومات يقول إن هذه المسألة يمكن أن تتغير، أو تدخل عليها تعديلات ربما لا تجعلها بالدرجة ذاتها من الود والهدوء والاستقرار، بحكم الأجندة المختلفة التي يحملها الرئيس الأميركي والتطورات الحرجة في المنطقة.
انتشر خلال يومي الجمعة والسبت خبران مهمان، اعتزمت الولايات المتحدة تبنيهما، أحدهما يعزز القناعات بأن العلاقة مع مصر لن تتغير وسوف تظل في مكانها ثابتة، وأن الرئيس ترامب لن يفرّط في جنراله المفضل بالقاهرة، حيث أكدت وزارة الخارجية الأميركية تجميد جميع المساعدات الخارجية المقدمة لدول عديدة، واستثنت من التجميد، مصر وإسرائيل، وهي علامة على خصوصية العلاقة مع الأولى، وبالطبع مع الثانية التي لا تضاهيها دولة أخرى.
أما الخبر الثاني، فيتعلق بما كشفه موقع “إسرائيل هيوم” حول توجه عدد من نواب الحزب الجمهوري في الكونجرس الأميركي نحو مناقشة ما يسمى بخروقات القاهرة العسكرية لاتفاقية السلام الموقعة مع تل أبيب، حيث جرى نشر معدات ثقيلة في المنطقة (ج) القريبة من حدود مصر مع إسرائيل، بما يتعارض مع نصوص وروح هذه الاتفاقية التي تمنع وجود قوات عسكرية ثقيلة في هذه المنطقة.
◙ الاستثناء من تجميد الدعم يعزز القناعات بأن العلاقة مع مصر لن تتغير وسوف تظل ثابتة، وأن ترامب لن يفرط في جنراله المفضل
ولم يشر الموقع الذي انفرد بالخبر إلى نية الكونجرس التوقف عند خروقات إسرائيل في قطاع غزة، وانتهاك ملاحق هذه الاتفاقية بشأن الوضع العسكري في ممر فيلادلفيا ومعبر رفح، حيث نشرت إسرائيل قوات في الأول وهدمت الثاني وأوقفت حركة المرور فيه تماما أثناء عدوانها على غزة، من دون تفاهمات معلنة أو ضمنية مع مصر، ما خلق توترا سياسيا مكتوما بين القاهرة وتل أبيب، لا تزال تداعياته مستمرة.
على الرغم من التوقيع على صفقة الأسرى والتمهيد لوقف إطلاق النار وما يحويه هذا الاتجاه من إشارة واضحة للخروج من الممر تدريجيا وتشغيل المعبر، إلا أن بعض التصريحات الإسرائيلية توحي بعدم حدوث الانسحاب في موعده، وهو اليوم الخمسون من تنفيذ الصفقة، بعد أسبوع من تنفيذ المرحلة الأولى وتستغرق 42 يوما.
من يعرف طريقة إدارة الرئيس ترامب للسياسة الخارجية لا يجد تناقضا بين تطوري الاستثناء من تجميد الدعم ومناقشة ملف القوات المصرية في سيناء، فالأول يفيد بأن هناك حرصا على استمرار السلام بين القاهرة وتل أبيب وتحمل تكاليفه المادية، فالمساعدات أو المعونة التي تقدمها الولايات المتحدة منذ نحو نصف قرن لمصر هي ثمن ضئيل للحفاظ على السلام، الذي التزمت به جميع الإدارات الأميركية السابقة. ويعني أن مصر رقم حيوي في الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وسوف يحتاج لدورها الرئيس ترامب لاستكمال مشروعه المعروف بـ”صفقة القرن”.
ويعلم الفريق المعاون للرئيس الأميركي الجديد أن لمصر تحفظات على هذه الصفقة منذ جرى الإعلان عنها في فترة رئاسته الأولى، ولم تكن مواقف القاهرة مؤيدة للإسراف في التوقيع على ما يعرف بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية” في غياب حل القضية الفلسطينية، وكي تعدّل مصر موقفها أو تستجيب لمطالب ترامب، يجري التهديد من قبل الكونجرس، أي مناقشة ما يعتبر خروقات عسكرية للاتفاقية، وغض الطرف عن التجاوزات الإسرائيلية الحالية في ممر فيلادلفيا، وتجاهل أن نقل معدات عسكرية إلى سيناء تم في إطار حرب ضروس خاضتها مصر لمكافحة الإرهاب والمتطرفين في سيناء، أي فرضته دواع أمنية فائقة، والأهم أن القاهرة لم تتلق ممانعة صريحة من تل أبيب أو واشنطن، بل حصلت على مباركة ضمنية منهما في ذلك الوقت.
يبدو أن الرئيس قرر استخدام سياسة الأداتين هذه المرة، أي عدم تجميد المساعدات (الجزرة)، ومناقشة ما يوصف بالخروقات المصرية في سيناء (العصا)، وهو ملف حساس بالنسبة إلى القاهرة، وفتحه داخل الكونجرس من نواب عن الحزب الجمهوري يشي أن ثمة مباركة من جانب ترامب الذي له هيمنة كبيرة على الحزب والكونجرس، وأن الرجل لن يستخدم الجزرة فقط للتعامل مع السيسي، بالتالي يمكن أن تصل العلاقة إلى مرحلة غير مألوفة من الخلاف، بسبب تجاهل ما قامت به إسرائيل من تجاوزات بحق السلام مع مصر، وهو ما يفجر الملف على نطاق واسع.
ومع أن خبر مناقشة هذا الملف ذاع صيته بعد أن نشره موقع “إسرائيل هيوم” ولم نجد معلومات كافية عنه من أيّ مسؤول كبير في الإدارة الأميركية أو الكونجرس، إلا أن إثارته في هذا التوقيت تشير إلى أن تل أبيب عازمة على مضايقة القاهرة، وحثها على تغيير موقفها من مراحل تنفيذ صفقة الأسرى التي تواجه مطبات عدة، وحضها على عدم التشبث بالإصرار على خروج القوات الإسرائيلية من ممر فيلادلفيا حاليا.
◙ من يعرف طريقة إدارة الرئيس ترامب للسياسة الخارجية لا يجد تناقضا بين تطوري الاستثناء من تجميد الدعم ومناقشة ملف القوات المصرية في سيناء
ويعد اللجوء إلى الكونجرس محاولة لترك الرئيس الأميركي يمضي في طريقه المعتاد مع مصر، وتوظيف الأدوات المساعدة لإسرائيل أو اللوبي الذي يمكنها من تحقيق أغراضها، ويمارس ضغطا على ترامب لإقناع السيسي للقبول بالمعادلة الإسرائيلية المتغيرة في جنوب قطاع غزة، التي لا تعني أن أحدا، من مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، يستطيع التفريط في اتفاقية السلام، أو على استعداد للدخول في صراع جديد في هذه المرحلة، بعد أن أظهر كل طرف تمسكه بها، وتعتبر من المنجزات الحيوية، وتم وضعها ضمن الأطر الإستراتيجية الرئيسية في الحسابات الإقليمية.
يكشف التطوران المشار إليهما عن مجموعة من المحددات التي تحكم العلاقة بين ترامب والسيسي، أبرزها عدم السماح لمصر بخرق السلام مع إسرائيل، فمن المرجح أن تشهد الفترة المقبلة تصعيدا تقوم به تل أبيب لاستكمال مهمتها في غزة، وعلى القاهرة أن تواصل ضبط النفس في التعامل معه، وهناك آليات تمكن إسرائيل من المضي في أيّ سيناريو للعودة إلى التصعيد بكثافة، وغطاء أميركي جاهز لتسهيل المهمة، يتجاوز الغطاء الذي وفرته إدارة الرئيس السابق جو بايدن.
كما أن توجهات ترامب ستكون منصبة نحو السعودية، لتوقيع الاتفاقية المنتظرة مع إسرائيل، وإذا لم توفر مصر دعما لها فعليها ألا تكون سببا في عرقلتها، وهو أمر مرفوض أميركيا، وقد تتعرض القاهرة بموجبه لمضايقات خشنة من واشنطن، أقلها فتح ملف ما يقال إنه خروقات في سيناء، وأكثرها فداحة إسقاط المعاني الإيجابية التي انطوت عليها عبارة الجنرال المفضل وتحولت إلى سردية تقاس بها بوصلة الرئيس الأميركي حيال نظيره المصري، والحفاظ عليها أو هدمها سوف يتوقفان على قابلية القاهرة للتعاون مع خطط ترامب في المنطقة إلى أبعد مدى.