تطرف قديم بأدوات جديدة

التيارات التي ينتمي إليها المتطرفون لا تزدهر إلا في الفوضى فتجدهم يحتفلون بالخراب الذي يطال البلدان لتصبح بيئة قابلة لانتشار التطرف وجماعاته التي لا هم لها سوى تهديد أمن الشعوب.
الثلاثاء 2023/03/07
المجتمعات الإسلامية لم تعد تحتمل من يسيئون للدين باسم الفتوى

من الظواهر التي تتكرر ولا نكاد ننتهي من ضجيجها إلا وتعود مرة أخرى، تلك التي يفتعلها بعض من أدمن استغلال الدين سعياَ وراء الشهرة وتجميع الأتباع، ما يجعله لا يختلف كثيراً عن أولئك المصابين بهوس النجومية والشهرة من أصحاب المهن الفنية وعارضي الأزياء وغيرها من المهن التي تحقق رواجاً في أوساط الجمهور، لاسيما ونحن في عصر وسائل التواصل الاجتماعي.

ويستمر المدمنون على الشهرة الذين يتاجرون بالدين في تصيد واختراع مواقف بهدف إثارة الضجيج حولها، واستقطاب المتعاطفين معهم من خلال نشر بكائيات ليشغلوا الناس بها، ويصرفوا أنظارهم عن أهداف المتطرفين الذين يركزون على غسيل عقول بعض الشباب واستغلالهم في ترويج أفكار تتستر وراء الدين، بينما أبطالها يستمتعون بتحويل الخطاب الديني إلى أداة للسيطرة على المزيد من البسطاء الذين لا يقرؤون ما بين السطور، ولا يدركون ما وراء الأصوات العالية التي تستغل المنابر ومختلف الوسائل لإثارة الفتن، وتسليط الضوء على موضوعات لا تمسّ بالدين من قريب أو من بعيد.

من أحدث الأمثلة على ما يقوم به هذا الصنف من الدعاة إثارتهم قضية “يوم العلم” بمناسبة صدور أمر ملكي في المملكة العربية السعودية بتحديد يوم للاحتفاء بالعلم. حيث فقد المتطرفون الهدوء واعتبروا صدور القرار مناسبة للظهور واختراع فتاوى القصد منها لفت انتباه الجمهور وإثارة جدل غير مفيد، ثم أن اعتراضهم على احتفال الشعوب والحكومات بأعلامها التي تدل على وحدتها وتكاتفها، يكشف أيضاً مدى القطيعة التي ترسخت في عقول المتشددين ضد مفهوم الوطن والانتماء.

وهذا السلوك الذي يقوم على استغلال الدين يؤكد الحاجة إلى عدم ترك حق الإفتاء لمن هب ودب، لأن المجتمعات الإسلامية لم تعد تحتمل من يسيئون للدين باسم الفتوى، ومن يؤججون التطرف ويحرضون الشباب على الانسلاخ عن هويتهم ويزرعون في رؤوسهم كل ما يتنافى مع مشاعر الولاء الوطني، ومع القيم التي تجعلهم يتطلعون لبناء أوطانهم ومستقبلهم.

◙ المدمنون على الشهرة الذين يتاجرون بالدين يستمرون في تصيد واختراع مواقف بهدف إثارة الضجيج حولها، واستقطاب المتعاطفين معهم من خلال نشر بكائيات ليشغلوا الناس بها

وقبل الضجيج الذي افتعله المتشددون حول يوم العلم، استغلوا أيضا افتتاح الإمارات لبيت العائلة الإبراهيمية، الذي يتكون من ثلاث دور عبادة في مكان واحد للأديان السماوية، تضم مسجداً وكنيسة وكنيساً. وسارع الغلاة إلى تأويل هذه الخطوة ونشر ادعاءات كاذبة تتناقض مع أهداف هذه المبادرة التي تعكس تنوع أديان الجاليات المقيمة في الإمارات وتعايشها الحضاري رغم اختلاف عقائدها.

وكعادتهم، لا يجيد المتاجرون بالدين سوى اقتناص الأحداث وتحريفها وإعادة تسويقها للجمهور بأساليبهم التي تتعمد التشويش على المجتمعات بهدف صناعة الفتنة، لأن التيارات التي ينتمي إليها المتطرفون لا تزدهر ولا تجد مصلحتها إلا في الفوضى والاضطرابات، فتجدهم يخططون لصناعتها ويحتفلون بالخراب الذي يطال البلدان لأنها تصبح بيئة قابلة لانتشار التطرف وجماعاته، التي لا هم لها سوى التسلط وتخريب أمن الشعوب ونهب ثرواتها وتهديد مستقبل أجيالها.

وربما كانت التحذيرات من هؤلاء في أوقات سابقة لا تعتمد على شواهد من الواقع، تثبت ما يمثلونه من خطر على السلم الأهلي للشعوب، لكن الوقت الحاضر أصبح مليئاً بشواهد حول دول وشعوب دمرت لأنها وقعت في فخ التطرف والفوضى والتخريب، الذي لا يخدم سوى الإرهابيين الذين يسوقون أتباعهم إلى الهلاك ويتفرغون لاستقطاب المزيد.

وقبل أن تظهر وسائل التواصل الاجتماعي التي يستغلونها لإدخال الشك في نفوس البسطاء وإقناعهم أن الدين يحرم حب الوطن وتحية العلم، كانوا ينشرون فتاواهم وخطبهم المتطرفة عبر أشرطة الكاسيت ومنابر الجمعيات وحلقات الدروس ورحلات التخييم التي كان الهدف منها استقطاب الشباب. واليوم لم يتغير من أساليبهم شيء سوى الأدوات التي يستغلونها لنشر تطرفهم القديم، الذي يتكرر فيه التكفير واحتكار الحديث باسم الدين واستهداف قيم الولاء والانتماء، فأصبحنا أمام تطرف قديم، ولكنه يستخدم أدوات جديدة.

9