تطبيقات شائنة أم ابتكارات
كلما أوغل الزمان ازدادت متطلبات السرعة وارتفع الطلب على المتعة السريعة والسهلة التي لا تتطلّب الكثير من إعمال العقل وتنشيط الخيال، وطالما تحدّث البعض في السنوات الأخيرة عن ضرورة عصرنة الأنماط القديمة من الإبداع، مثل تحويل الروايات إلى أفلام ومسرحيات والأعمال الفنية إلى نصب في الشوارع وفنون غرافيتي سهلة ومباشرة وصادمة في توصيل رسالتها، وعلى الرغم من أنّني لم أجد أديباً واحداً كان راضياً على نتائج مقامرة تحويل عمله الأدبي إلى السينما على سبيل المثال، إلّا أن التجارب تتواصل وتوغل في التطرف أحياناً، وآخر ما وصلنا ضمن هذا المسعى هو ما سمّي بملتقى الأدب والصناعات الإبداعية الذي عُقد على هامش معرض فرانكفورت الدولي الأخير للكتاب، وحسب المنظمين والمشرفين على هذا الملتقى، ما عليك سوى أن تلبس خوذة ونظارة إلكترونية وتسترخي لتعيش عالم الأدب المجسد بالتقنية ثلاثية الأبعاد، فالنظارات السود على عينيك والسماعات المُجسمة في الخوذة الإلكترونية كفيلة بنقلك إلى عالم الأدب الافتراضي أو الظاهري.
وفي الواقع ما إن تفعل ذلك حتّى تجد نفسك في قلعة الشتاء السعيد، والبركان المحيّر، وقصائد لوكاش هيرش، وغيرها من الأعمال الأدبية الكلاسيكية والمعاصرة، فالتأثير السّحري لنظارة الفيديو والسماعات الموصولة بها سيوفران لك تجربة مدهشة حيث تبدو حياتك مُعّلقة على موضوع ما وعقلك منشغلا في تطوير الحياة الافتراضية القصيرة لكن ذات الأبعاد الكونية التي تتيح لك محاكاة مغنّي الأوبرا الافتراضي في حين يجلس إلى جانبك أناس حقيقيون في عالم خيالي.
وعلى الرغم من النمو الهائل لصناعة الألعاب الإلكترونية في العقدين الأخيرين، التي بلغت إيراداتها، حسب الملتقى المذكور، أكثر من 60 مليار دولار في العام الماضي وحده، إلّا أن اقتحام تلك الصناعة لمجال الأدب ظل شحيحاً إلى حدٍّ ما، بينما تبرز أمام القائمين عليها حقيقة صادمة طالما شغلتهم، مفادها أن أستوديوهات صناعة الألعاب الإلكترونية بحاجة ماسة إلى القصص الجيدة، وبعبارة أخرى نجد أن التكنولوجيا مهما تطورت وأوغلت في ابتكار النتائج المبهرة وتأثيرها الساحق على الجمهور، تبقى بحاجة إلى الخيال البشري الخلاق، وطالما أن الآلات لا تحلم ولا تتخيّل ستبقى قاصرة في ابتكار السعادة وأسبابها ما لم تتوفر لها قصص جيدة كما يقول جيري سميث، مالك شركة إلكترونيك آرت لصناعة الألعاب الإلكترونية.
انطلاقاً من هذه الحقيقة نُظم ملتقى الأدب والألعاب هذا العام في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، لكن كيف ستعالج تلك الألعاب الأدب؟ وكيف ستقدمه؟ وما هي عناصر التشويق التي يمكن أن تضيفها لجمهور المستخدمين الذي عودته تلك الألعاب على الخمول المخيّلاتي وتلقي الإدهاش المجرّد؟ في الواقع تسعى تلك الألعاب لتقديم القصص المعروفة وفق العديد من المستويات والمسارات المختلفة للأحداث والنهايات المتناقضة وتتيح للمستخدم تعديل مصائر الأبطال وفقها أو قتلهم مبكراً أو تفكيك شبكة العلاقات القائمة في قصة ما وإعادة تركيبها وفق ما يراه المستخدم أو بما يتناسب مع ميوله العاطفية وهكذا.
ولنتخيّل على سبيل المثال فقط، لو أن القارئ لرواية “الشيخ والبحر” لهمنغواي يستطيع أن يختار بين سمكة القرش التي وصلت المرفأ هيكلاً عظمياً بعد أن نهشتها الأسماك الأخرى، أو أن يجعلها تصل حيّة وتخبط القوارب الراسية وتهاجم البلدة الصغيرة ثأراً من الصيّاد العجوز الذي اصطادها.
أو أن الكولونيل في رواية ماركيز الشهيرة وجد فعلاً من يراسله ويغير مسار حياته إلى الأبد.
وبعبارة أخرى فإن جناية السينما على الرواية وتخريبها في الأفلام ستصبح قريباً موبقة صغيرة بالنسبة إلى النتائج الشائنة التي يتوقع أن تحدثها الألعاب الأدبية الإلكترونية.
كاتب من العراق