تشاد مهددة بالإرهاب مع تصاعد احتجاجات المعارضة

تعيش تشاد على وقع اضطرابات أمنية وتظاهرات اجتماعية متنامية تزيد من إضعاف القوات الحكومية وإشغالها عن مواجهة الجماعات المسلحة، فيما تتمسك بضرورة مغادرة القوات الفرنسية البلاد لصالح روسيا، الأمر الذي يهدد في حال وقوعه دون تخطيط مسبق بفتح المجال أمام الإرهابيين لتحويل البلاد إلى أفغانستان جديدة.
أثبتت التطورات المتسارعة في تشاد أن انعكاسات أحداث مالي، وآخرها الانسحاب الفرنسي منها، ستطال دول مجموعة الساحل الأفريقي الخمس، حيث يعيد المشهد في هذه الدول تشكيل نفسه منذ تقلص الحضور الفرنسي مع بدء الانسحاب من مالي وإعادة نشر القوات، فضلا عن تصاعد النفوذ الروسي، ما جعل الرفض الشعبي لباريس يتدحرج ليصل أخيرا إلى تشاد.
خرجت مظاهرات في شوارع مدن تشاد الكبرى والعاصمة إنجامينا أخيرا طالبت برحيل فرنسا من البلاد، وردد المحتجون المنتمون للمعارضة المدنية هتاف “تشاد حرة وفرنسا على برا”.
وشهدت الفعاليات الجماهيرية الساخطة المستمرة منذ منتصف الشهر الماضي مواقف رمزية بعثت برسائل مختلفة لفرنسا والمجلس العسكري الحاكم، منها تحطيم النصب التذكاري للجنود الفرنسيين، وحطم المتظاهرون نصبا تذكاريا ثانيا يرجع إلى العام 1941 ويرمز للمقاتلين التشاديين الذين قُتلوا من أجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية.
الانسحاب غير المنسق للقوات الفرنسية سيخلق بجانب انشغال القوات المحلية بالسيطرة على الاضطرابات الاجتماعية فراغا يمكن أن يملأه الإرهابيون
ولم يكتف المتظاهرون بحرق الأعلام الفرنسية ورفع نظيرتها التشادية، بل رفع البعض منهم العلم الروسي على سارية بوسط إنجامينا كدلالة على تفضيل موسكو على باريس.
لم تعتد تشاد هذا النوع من الفعاليات الحاشدة والمنددة بنفوذ باريس وغير المرحبة بتواجد القوات الفرنسية على غرار ما جرى في غيرها من دول الساحل، مثل النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
ورفض المحتجون النفوذ الاقتصادي الفرنسي ودمروا العديد من محطات الوقود التابعة لشركة توتال الفرنسية، ووضعوا حزمة من المطالب السياسية كنواة للتصعيد ضد النظام الحاكم المدعوم من باريس المتهمة من قبل المعارضة بتدبير تنصيب محمد إدريس ديبي رئيسا لتشاد لمدة غير محددة خلفا لوالده.
ويضم ائتلاف “حان الوقت” وهو واحد من أجنحة التيار المدني المعارض الذي قاد المظاهرات عددا كبيرا من طلبة الجامعة، وأعلن تعليق محادثاته مع المجلس العسكري في السادس من أبريل الماضي، واصفا إياه بـ”النظام المستبد غير الشرعي”، مستنكرا الدعم الذي يتلقاه من المجتمع الدولي.
ولم يشفع لفرنسا تأكيدها أكثر من مرة وفق تصريحات مسؤوليها على أنها غير منحازة لأحد من القوى التشادية وتقف على مسافة واحدة من الجميع، داعمة لمسار المحادثات والحوار الوطني وصولا إلى حلول توافقية.
تباين في التقديرات
تختلف المعادلة في ما يتعلق بفرنسا في تشاد عنها في مالي، حيث أن سبب الخلاف مع مالي وسحب القوات منها هو التوتر الذي شاب علاقة باريس بالمجلس العسكري الحاكم هناك.
بينما يرجع سبب التصعيد ضد فرنسا في تشاد إلى ما أبدته من مرونة حيال سيطرة الجنرال محمد ديبي على مقاليد السلطة، بعد مصرع والده على يد المعارضة المسلحة العام الماضي، في مخالفة لبنود الدستور.
وكان الجنرال محمد إدريس ديبي إتنو الذي رأس المجلس الانتقالي العسكري المؤلف من 15 جنرالا بعد مقتل والده في أبريل من العام الماضي تعهد بإجراء انتخابات حرة بعد فترة انتقالية مدتها 18 شهرا يُجرى خلالها حوار وطني شامل، مع أن الدستور التشادي ينص على وجوب انتخاب رئيس في غضون تسعين يوما فقط من غياب الرئيس.
ونجت النيجر من السقوط في يد سلطات عسكرية، حيث يقود بوركينا فاسو وتشاد ومالي قادة عسكريون، وفي وقت عوقب فيه الجنرالات في مالي وغيرها من دول غرب أفريقيا دوليا، حظي ابن الجنرال ديبي في تشاد بالدعم والتأييد الفرنسي وشريحة من المجتمع الدولي.
ويرى معارضون تشاديون أن إعادة فرنسا نشر قواتها في بلادهم بما مقداره 2500 جندي بعد الانسحاب من مالي بمثابة تكريس للنفوذ الأجنبي الذي يمتد لعقود طويلة، ما يحول دون تمتع أهل البلاد بثرواتها.
وطالب المحتجون بحكم مدني يتيح الديمقراطية وحرية الممارسة السياسية، ولذلك فلن يكفّوا عن المقاومة حتى رحيل ما يصفونه بالاستعمار الفرنسي.
وتوجه الاتهامات إلى باريس على مستوى واسع التي تحرص على دعم النظام العسكري ليستمر وضع يدها على موارد البلاد الطبيعية وثرواتها، حيث تعد تشاد من الدول المهمة المنتجة للنفط في أفريقيا جنوب الصحراء، ومع ذلك فهي واحدة من أفقر دول العالم.
خدمة للإرهابيين
قرن المتظاهرون بين رفض السلطة العسكرية الحاكمة والنفوذ الفرنسي الذي يرمز للماضي الاستعماري لتشاد، والتي يعاني مواطنوها من مآس معيشية مروعة.
ولا يكفي الإنتاج الزراعي وما يدره الاشتغال بالرعي حاجة السكان من الغذاء وضروريات الحياة الأساسية، بينما يتم تخصيص ميزانيات ضخمة للمجال العسكري والإنفاق على السلاح والتدريب على حساب مجالات الصحة والتعليم وتحسين جودة المعيشة.
ورغم أنها ترفع مطالب وشعارات مشروعة مثل رحيل القوات الأجنبية واستبدال الحكم العسكري بآخر مدني ديمقراطي، إلا أن المظاهرات المناهضة للسلطة الانتقالية في تشاد وللوجود الفرنسي تقدم خدمة مجانية للجماعات الإرهابية ذات الانتماءات المختلفة والناشطة في المنطقة.
وفرضت المستجدات في الشارع التشادي تساؤلات بشأن دور تشاد المستقبلي كدولة حليفة لفرنسا وللولايات المتحدة في الحرب ضد الجماعات المسلحة، خاصة أن الجيش التشادي ظل طوال السنوات الماضية رقما رئيسيا في معادلة مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.
وإذا قادت مظاهرات التيار المدني المعارض إلى اضطرابات اجتماعية موسعة من خلال تأجيج السخط الشعبي على الأوضاع المعيشية المتردية واستمرار هيمنة عائلة ديبي التي تسيطر على الأجهزة الأمنية وشركة النفط الحكومية والمؤسسات الرئيسية، فمن المرجح حدوث فراغ في جهود مكافحة الإرهاب، لأن فرنسا تخطط لتقليص عملياتها والاعتماد على القوات التشادية.
ويخيم النموذج الأفغاني بظلاله القاتمة على المشهد التشادي، فتفكيك التحالف بين فرنسا والسلطة العسكرية وتزايد مظاهر العداء حيال القوات الفرنسية من جهة وحكم الجيش من جهة يهدد بمآلات شبيهة.
وسيخلق الانسحاب غير المنسق للقوات الفرنسية، إذا حدث تحت ضغط غضب الشارع بجانب انشغال القوات المحلية بالسيطرة على الاضطرابات الاجتماعية، فراغا واسعا يمكن أن يملأه الإرهابيون.
ولو جرى إقصاء العسكريين عن السلطة وتولت المعارضة التشادية مقاليد الحكم فإن الإنقسام بين الجنوب والشمال سوف يصبح سيد الموقف بسبب سيطرة قبائل التبو الذين قد يقحمون ليبيا في الصراع عبر تحالفات مع ميليشيات وأطراف ليبية ممتدة عبر الحدود المشتركة.
وتصب هذه المعطيات في مصلحة الجماعات الإرهابية التي وصلت في أبريل الماضي إلى مسافة 300 كيلومتر من العاصمة إنجامينا قبل صدهم من قبل الجيش الذي يعاني من إرهاق المعارك في مواجهة متمردين راكموا أسلحة وخبرات قتالية في ليبيا المجاورة.
وفي واقع يكتنفه الافتقار لحلول سريعة وعملية لتحسين معيشة غالبية سكان تشاد من الفقراء والإحباط من حضور فرنسي لا يفيد الشعب بل النخبة الحاكمة، علاوة على عدم التعويل كثيرا على البديل المدني يشعر المواطنون التشاديون بخيبة أمل كبيرة ويتجه الكثير منهم إلى معسكر الجهاديين والإسلام السياسي.
روسيا تنافس
يقابل كل تراجع لفرنسا في تشاد وغيرها من دول منطقة الساحل بتقدم معاكس لنفوذ موسكو، وأعطى رفع العلم الروسي وسط العاصمة التشادية مؤشرا لصعود روسيا مقابل تراجع نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة.
وكما تختلف المعادلة بين تشاد ومالي حيال فرنسا تختلف كذلك بالنسبة إلى روسيا التي تدعم في حالة تشاد قوى المعارضة المدنية خاصة كتلة التغيير والوفاق التشادية التي تدربت عناصرها على يد عناصر من مجموعة فاغنر، بينما تدعم في مالي السلطة العسكرية الحاكمة.
واتهمت الولايات المتحدة شركة “فاغنر” الروسية الأمنية بالتسبب في مقتل الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي بعد أن دعمت هجوم المتمردين التشاديين على إنجامينا وأمنت انسحابهم إلى ليبيا بعد الدعم الذي تلقته القوات التشادية من باريس.
خرجت مظاهرات في شوارع مدن تشاد الكبرى والعاصمة إنجامينا طالبت برحيل فرنسا، ولم يكتف المتظاهرون بحرق الأعلام الفرنسية، بل رفع البعض منهم العلم الروسي
وأحاطت روسيا بالنفوذ الفرنسي في تشاد عبر المستشارين العسكريين وعناصر شركة “فاغنر” من مختلف الجوانب، حيث تتواجد جنوبا في جمهورية أفريقيا الوسطى وشمالا بإقليم فزان الليبي وشرقا بإقليم دارفور السوداني ثم مالي من الغرب ولم يعد يفصلها عن حدود تشاد سوى النيجر.
وحتى لا تفقد فرنسا نفوذها التاريخي في منطقة الساحل من المرجح أن تستمر في تقديم الدعم للرئيس الجديد الجنرال محمد ديبي لتعزيز صموده أمام ضغوط وهجمات المعارضة المدنية والعسكرية المدعومة من موسكو.
ولا تعني حماية باريس للجنرال محمد إدريس ديبي من السقوط فقط حمايتها لنفوذها في تشاد إنما في عموم وسط أفريقيا وغربها، بالنظر للاحتجاجات المماثلة في النيجر ومالي وبوركينا فاسو التي تطالب بتوطيد العلاقات العسكرية مع روسيا وطرد فرنسا من المنطقة.
وتواجه فرنسا العديد من التحديات التي تعيق استراتيجيتها الجديدة في دول الساحل الرامية لإعادة التموقع عسكريا وتركيز حضور القوات بدول أخرى غير مالي، في مقدمتها تواصل خروج المظاهرات المناوئة لتواجدها بالمنطقة وانتقالها مؤخرا إلى تشاد، علاوة على تزايد نفوذ روسيا وتمدد الجماعات المسلحة إلى مناطق لم تكن تحلم بها.