تسلّط أردوغان يفرغ تركيا من أصحاب العقول والكفاءات

الكثير من الأتراك من بينهم كفاءات أفضل الجامعات المحلية، باتوا منفيين طوعا بسبب الوضع السياسي المتقهقر.
الجمعة 2021/02/12
الأتراك يدفعون ثمن سياسات فاشلة

أنقرة – يعطي تصاعد منحنى هجرة الكفاءات العلمية من تركيا إلى الخارج فكرة أكثر وضوحا عن سوء السياسات التي يتّبعها الرئيس رجب طيب أردوغان، إذ يشكل غياب الديمقراطية والقوانين التعسفية، فضلا عن تدهور مناخ الأعمال، أبرز الدوافع لبروز تلك الظاهرة.

وبالرغم من أن الحديث عن قضية فرار الأتراك من البلاد بحثا عن حياة أفضل في الخارج كان مطروحا في السنوات الماضية، إلا أن الأرقام التي نشرتها هيئة الإحصاء التركية، والتي تشير إلى هجرة أكثر من 330 ألف مواطن في 2019، يمكن أن تكون مؤشرا خطيرا على أن الوضع قد يتجه إلى الأسوأ في المستقبل.

ويؤكد جون لوبوك، الكاتب في موقع “أحوال تركية”، أن الكثير من الأتراك من بينهم خريجو أفضل الجامعات المحلية، بما في ذلك جامعة بوغازجي (البوسفور)، التي تتعرض إلى هجوم الحكومة والصحافة الموالية للنظام، باتوا منفيين طوعا بسبب الوضع السياسي المتقهقر.

جون لوبوك: تكاليف القمع السياسي على الاقتصاد التركي ستكون باهظة
جون لوبوك: تكاليف القمع السياسي على الاقتصاد التركي ستكون باهظة

وفي أعقاب احتجاجات منتزه غيزي في العام 2013، بدأ العديد من الشباب المتعلمين والتقدميين سياسيا في تركيا يتحدثون عن مغادرة البلاد. ومع محاولة الانقلاب في 2016، نظروا إلى رد الحكومة القمعية والسلطوية، وتطهير القطاع العام من المعارضين، وقرروا أن الفرص في قطاعات الأعمال أو الثقافة أو المؤسسات الأكاديمية أو الخيرية لم تكن مهيّأة لأمثالهم ولأولئك الذين لا يدعمون الحكومة التركية.

ونشر حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي شارك أردوغان في تأسيسه، جذوره في جميع أنحاء الدولة وعبرها وفي جميع أنحاء قطاع الأعمال وإذا لم يكن أي مواطن داعما مطيعا للحكومة، لن تكون فرصته في تركيا كبيرة.

ويشير لوبوك إلى أن حزب أردوغان، الذي يسيطر على الحكم منذ 2003 اكتسب سمعة طيبة بفضل الأداء الاقتصادي الذي سجّلته البلاد خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنها تشوّهت بسبب الكارثة الاقتصادية التي خلقها في العقد الماضي والتي كان من الممكن تجنبها.

ولمعرفة أسباب مغادرة الأتراك للبلاد، قام لوبوك بدراسة الظاهرة عبر عينة من المستجوبين للتمكن من فهم أسباب هجرة الأدمغة بشكل أفضل. وقال “تلقيت 129 ردا حتى الآن ولكن لن أتظاهر بأن هذه البيانات تشكل عينة تمثيلية من المنفيين في تركيا وأسباب مغادرتهم حقا، لكنها تعطي لمحة عن جزء من هذه المجموعة الكبيرة من الأتراك التي تعيش في الخارج”.

واللافت أن 49.2 في المئة من المستجوبين تراوحت أعمارهم بين 30 و40 عاما، و67.2 في المئة بين 25 و40 عاما، ويعدّ ذلك الأمر سلبيا بالنسبة إلى الاقتصاد التركي، فقد دفعت البلاد إلى تعليم هؤلاء الأشخاص الذين لا يرون الآن مستقبلهم في بلدهم، والذين أخذوا مهاراتهم ورؤوس أموالهم إلى الخارج.

وعلى العكس مما يظن البعض بأن هذا النزوح الجماعي للمتعلمين والمنتجين اقتصاديا سينعكس قلقا بالنسبة إلى الحكومة التركية، إلا أنها تزيد الوضع سوءا بمهاجمة الطلاب في جامعة البوسفور المرموقة.

وبينما ذكر 47 من أصل 129 من الأشخاص (36 في المئة) قلة الفرص التعليمية كسبب رئيسي للمغادرة، وحددوا بحثهم عن فرص تعليمية أفضل في أماكن أخرى في إجاباتهم، أشار 12 في المئة من المستجوبين إلى أن سبب هجرتهم على وجه التحديد المغادرة لمتابعة درجة الماجستير أو الدكتوراه.

ولفت 32 مشاركا، أو 24 في المئة، إلى الحكومة أو أردوغان أو الضغوط السياسية بشكل عام كسبب رئيسي للمغادرة، في حين ذكر 28 مشاركا، أي 21 في المئة، أسبابا اقتصادية للمغادرة، في حين ركز 18 مشاركا، أو 14 في المئة، على أسباب اجتماعية بعينها.

ويرى لوبوك أنه ربما كانت بعض الأسباب الاجتماعية الأكثر إثارة للاهتمام، إذ يشعر العديد من الأشخاص بأن هويتهم الاجتماعية أو السياسية أو الجنسية غير مقبولة في المجتمع، حيث قدّم أحد المستجيبين سبب مغادرته على أنه عدم قبول المجتمع له كشخص مثلي الجنس، والذي قال “سئمت إخفاء هويتي حتى أمام أصدقائي المقرّبين”.

على العكس مما يظن البعض بأن هذا النزوح الجماعي للمتعلمين والمنتجين اقتصاديا سينعكس قلقا بالنسبة إلى الحكومة التركية، إلا أنها تزيد الوضع سوءا بمهاجمة الطلاب في جامعة البوسفور المرموقة

وفي الوقت الذي تمحورت فيه أغلب الردود حول سؤال “ما هو أكثر شيء تفتقده في تركيا؟”، في إشارة إلى الأسرة والطعام والثقافة والطقس، كتب أحد المستجوبين يقول “في فقاعتي الصغيرة كنت سعيدا وربما أكثر سعادة مما أنا عليه في الوقت الحالي. لكنني كنت أتعرض للإهانة باستمرار، فشعرت بالحاجة إلى إجراء تغيير.”

ولا يشكك لوبوك في أن هجرة الأدمغة التركية تؤثّر على الاقتصاد والمجتمع في البلاد، ومن بعض النواحي يعدّ هذا تكرارا مثيرا للاهتمام لما حدث في تركيا قبل قرن، عندما أدى العنف الطائفي واضطهاد حكومة تركيا العثمانية إلى مغادرة مئات الآلاف من المسيحيين.

وقد تفاقم هذا بسبب التبادلات السكانية، التي تلت الحرب العالمية الأولى، عندما أدت هجرة اليونانيين الجماعية إلى انخفاض كبير في العمال المهرة ورجال الأعمال، مما أضعف التنمية الاقتصادية التركية خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي.

وتبقى تكاليف القمع السياسي على الاقتصاد باهظة، بحسب لوبوك، فعندما اعتمدت المؤسسة الكمالية التركية سلطتها لقمع المحافظين المتديّنين والأكراد كان الضحايا في الغالب من الطبقة العاملة الذين لم يكن لديهم خيار مغادرة تركيا ولكن بات المثقفون والليبراليون والبرجوازيون والأتراك المتغرّبون هم الذين يتعرضون لهجوم الحكومة ولديهم قدرة أكبر على مغادرة البلاد.

ويقول لوبوك إن الأمر لم يقتصر على تجفيف الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا، بل ثمة بعض رأس المال المملوك للأتراك يغادر البلاد أيضا، مما يزيد من تفاقم عجز ميزان المدفوعات التركي ويقلل من قيمة الليرة التركية.

وتواصل الحكومة التركية استهداف المؤسسات الليبرالية مثل جامعة البوسفور، لأسباب تشمل تشتيت الانتباه عن الوضع الاقتصادي المزري، لكن هذا سيؤدي إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية المتزايدة في تركيا، حيث لن تنجح كل الأساليب التي تستخدمها الحكومة.

7