تسعيرة للجواز العراقي

شكوى العراقي من أن جواز سفره أضحى تهمة يحملها، لن تنتهي إلا بانتهاء تحكم الميليشيات وزوال النفوذ الإيراني من بلده وهذا ما لا يستطيع أن يحققه إلا العراقيون أنفسهم عندما يتوحد وعيهم بمخاطر الميليشيات الطائفية والتدخل الإيراني بشؤون بلدهم وهما عاملا عدم تحقق الاستقرار في البلد، الذي نتج عنه فشل الدولة وضعفها وتفككها.
الجمعة 2018/12/28
جواز السفر أصبح مرآة وعنوانا سقيما يعبر عن كيان خرب

لم ألتق عراقيا إلا واشتكى من جواز السفر الذي يحمله، ووصفه بأنه تهمة في حدود البلدان، التي يسافر إليها، وفي مطاراتها.

والواقع، أن جواز السفر العراقي تذيّل قائمة أسوأ جوازات السفر حول العالم في آخر تصنيف لمؤسسة “هينلي” لأفضل جوازات سفر في العالم للعام 2018.  لا تزال باكستان وسوريا والعراق وأفغانستان تتذيل القائمة للسنة الثانية على التوالي، حيث تسمح جوازات سفرها جميعا بدخول 30 بلدا أو أقل من دون تأشيرة.

ويستمد الجواز قيمته في المجتمع الدولي من رصانة الدولة ومن استقرارها وعدالتها واحترامها للقوانين، وبسبب فضائح الحكومات الست المتعاقبة في العراق، بعد احتلاله، فقد بات انتهاك القانون تقليدا في الحكومة. وأصبح التزوير خبرا يوميا في مرافق الدولة كلها. وشمل التزوير الشهادات العلمية والمستندات والوثائق الرسمية، ومنها جواز السفر العراقي، الذي أصبح متاحا في سوق الأحزاب وتحت هيمنة الميليشيات. ووضعت عصابات الأحزاب تسعيرة بالدولار لمن هبّ ودبّ من الراغبين في الحصول على الجواز.

على امتداد السنوات الـ15 الماضية، فإن لكل وثيقة رسمية في العراق ثمنا يتعين على المواطن والمقيم والمتسلل دفعه. بل وأضحى بوسع أي أجنبي اقتناء ما يشاء من الوثائق بشرط الدفع لهذا الحزب الحكومي أو ذاك. ولأن الإدارات الحكومية فاسدة حتى النخاع ولأن ولاة الأمر فاسدون، صغيرهم وكبيرهم، فإن النتيجة كانت دولة فاشلة أصبح جواز السفر، الذي تصدره مرآة وعنوانا سقيما يعبر عن كيان خرب، وهو الأمر المهين الذي انعكست آثامه على المواطن الذي يحمل جوازها، ليصبح وثيقة سوداء في الموانئ والمطارات ويخضع حامله للتحقيق والتدقيق وهو على لائحة الدول من المشتبه بهم والحديث يطول.

قوة جواز سفر أي دولة هي انعكاس لمكانة الدولة في العالم والتي هي ثمرة لسياسة الدولة الخارجية، أي خطة الدولة أو استراتيجيتها في إدارة علاقاتها الخارجية مع دول العالم والكيانات الدولية بما يخدم مصلحتها الوطنية. ولكي نفهم هذا الأمر ينبغي أن نعرف ما المصلحة الوطنية ثم ما هي الأدوات اللازمة المستخدمة لتنفيذ السياسة الخارجية لتحقيق المصلحة الوطنية، ثم كيف توظف الدولة الأدوات والموارد لهذا الغرض.

بمعنى أن قوة السياسة الخارجية لأي دولة هي انعكاس للوضع الداخلي فإذا كان الوضع الداخلي ضعيفا فإن السياسة الخارجية ضعيفة أيضا والجواز هو جزء من قوة الدولة أو ضعفها، لكن ما تشهده مكانة الجواز العراقي من تدهور، في الوقت الحاضر، لم تشهده حتى في أقسى مراحل الحصار الدولي، الذي فرض على العراق في تسعينات القرن الماضي وحتى احتلاله سنة 2003، ذلك أن الوضع الداخلي، خلال الحصار، كان لا يزال قويا نسبيا. وكان هناك احتمال رفع الحصار في أي وقت فيسترجع العراق عافيته وثروته.

أما الآن فإن الوضع الداخلي ضعيف يسوده الفساد والمحاصصة الطائفية وتعدد مراكز القوى والاحتلال الإيراني مما جعل العراقيين يتدفقون إلى معظم دول العالم طالبين اللجوء وبأعداد تتجاوز الملايين. ولهذا فإن معظم الدول ترى في كل عراقي هو لاجئ أو أنه سيطلب اللجوء.

يرى خبير تكنولوجيا المعلومات أكرم عثمان، في رسالة كتبها لي، أن من أولى وظائف الدولة حرصها على مسألتين، الأولى حصر رعاياها، والثانية تسجيل حقوقهم، وتتوسل للقيام بذلك بإصدار الوثائق ومسك السجلات وتسجيل البيانات في قواعد بيانات تضمن صحتها وتحرص على تحديثها وإجراءات حمايتها، لأن قوة الدولة وتماسكها مرتبطان بهذه الوظيفة، تماما كما أن ضعف الدولة وتفككها مرتبطان بإهمالها تلك الوظيفة، مشيرا إلى الجوانب الفنية المرتبطة بإصدار الوثيقة مثل استحالة تزويرها وأن تكون شروط منحها واضحة ومستقرة، وأن تكون الدولة حامية للوثيقة التي تصدرها ولحاملها بحيث لا يمكن أن تتسرب إلى جماعات إرهابية.

إن شكوى العراقي من أن جواز سفره أضحى تهمة يحملها، لن تنتهي إلا بانتهاء تحكم الميليشيات وزوال النفوذ الإيراني من بلده وهذا ما لا يستطيع أن يحققه إلا العراقيون أنفسهم عندما يتوحد وعيهم بمخاطر الميليشيات الطائفية والتدخل الإيراني بشؤون بلدهم وهما عاملا عدم تحقق الاستقرار في البلد، الذي نتج عنه فشل الدولة وضعفها وتفككها.

9