تركيا تمنع داعش خراسان من تحويل أراضيها إلى ساحة بديلة

بالتزامن مع التراجع في كل من سوريا والعراق كانت الجماعة الإرهابية تعيد تنظيم صفوفها في تركيا، وهذه المرّة تحت مظلّة فرع آخر هو داعش خراسان حيث يشكّل مواطنو آسيا الوسطى والشرقية عموده الفقري، بالإضافة إلى استقطاب الأتراك.
القاهرة - عكس تصميم تركيا على ملاحقة فلول تنظيم داعش، ومواصلة القبض على ناشطي فرعه في خراسان، حرصها على عدم تحويل التنظيم أراضيها إلى ساحة تجنيد وتنفيذ عمليات إرهابية بعد تصاعد حدة الاستنفار الأوروبي ضد التنظيم وعناصره، وظهور بوادر تعاون بين روسيا وحركة طالبان.
وتخشى الأجهزة الأمنية أن تتحول تركيا إلى ساحة بديلة يثبت فيها داعش قدرته على الاستمرار وتنفيذ عمليات إرهابية فيها، إن لم تستبق الأحداث وتتخذ إجراءات احترازية كافية بالتوازي مع ما تنفذه الحكومات الأوروبية والاستنفار الروسي والأفغاني وجاهزية دول وسط آسيا للتعاون عقب هجوم موسكو في مارس الماضي وتزايد خطاب التحريض للقيام بعمليات إرهابية ضد الدول الغربية.
وأثبتت الاستعدادات المُعلنة من قبل السلطات الأمنية أن هناك حضورًا كثيفًا لخلايا كامنة لداعش في الداخل التركي قد تمثل خزانًا لتنفيذ عمليات، وقد جرى اعتقال ستة وثلاثين شخصًا تربطهم صلات بالتنظيم الأحد الماضي، بعضهم وفقًا لتصريحات وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا قادة وعناصر نشطة ويقومون بمهام التمويل والإمداد.
وحاول تنظيم داعش جعل الساحة التركية متنفسًا لعجزه عن القيام بعمليات في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي تلافت أخطاء الماضي ووسعت الصلاحيات التي تتمتع بها أجهزة الشرطة والاستخبارات وجعلت من الصعب التخطيط والتحضير لهجوم إرهابي نوعي على أراضيها.
من خلال تقديم نفسها كحليف موثوق في مكافحة داعش خراسان تسعى تركيا لكسب عوائد سياسية وأمنية واقتصادية
وفي استجابة لدعوة المتحدث باسم التنظيم أبوحذيفة الأنصاري، في كلمة ألقيت في الرابع من يناير الماضي، من أسماهم “ليوث الإسلام” إلى “مطاردة فرائسهم من اليهود والنصارى وحلفائهم في شوارع أميركا وأوروبا”، نفذ داعش هجومًا يوم الثامن والعشرين من يناير الماضي على الكنيسة الإيطالية “سانتا ماريا” بإسطنبول، في الوقت الذي وجد صعوبة في تنفيذ أي عملية داخل الولايات المتحدة أو دولة في أوروبا، على عكس الأهداف السهلة مثل استهداف تجمعات المدنيين وأماكن العبادة المسيحية واليهودية.
وينطوي لجوء داعش إلى تنفيذ عمليات إرهابية ضد مصالح أميركية وأوروبية في الساحة التركية على تمتع خلايا التنظيم في هذا البلد بحرية أكبر ووجود أعداد من ناشطيه بحالة كمون وجاهزية، وهو ما دفع إلى تحذير الأميركيين والأوروبيين رعاياهم المقيمين في تركيا من وقوع هجمات ضد المؤسسات الدبلوماسية وأماكن تجمعاتهم ودور العبادة.
ولجأ تنظيم داعش خراسان إلى التخطيط لعمليات في تركيا ومهاجمة القنصليتين السويدية والهولندية بإسطنبول بعد حادث حرق نسخة من القرآن في ستوكهولم من خلال عناصر طاجيكية وقوقازية وفقًا للائحة اتهام أعدها مكتب المدعي العام في إسطنبول، ما يعني حرص التنظيم على تجنيد أفراد من أصول آسيوية مع مسلحين أتراك لتهديد المصالح الأوروبية وجعل تركيا ساحة تجنيد وتنفيذ عمليات.
وفي الوقت الذي باتت فيه التنظيمات التكفيرية مفككة إلى حد كبير في العديد من الدول الغربية، خاصة الموالية لداعش بعد أن جرى اعتقال أو قتل غالبية أعضائها وفقد الباقون القدرة على التواصل، ظلت الساحة التركية حتى نهايات العام الماضي قابلة للتجنيد والتجميع وتشكيل خلايا قادرة على التنسيق والتعاون والتنفيذ المشترك.
واكتشفت الأجهزة التركية ما أُطلق عليه اسم “كتيبة سلمان الفارسي” التابعة لداعش في ديسمبر الماضي، واتضح بعد اعتقال عناصرها أنها كانت تعد لعمليات ضد دور عبادة يهودية ومسيحية وبعثات دبلوماسية غربية.
تنظيم داعش حاول جعل الساحة التركية متنفسًا لعجزه عن القيام بعمليات في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية
وأرادت تركيا أن تصل سيطرتها على الشبكات التكفيرية الموالية لداعش إلى مستوى سيطرة الدول الأوروبية عبر القبض على الناشطين والميسّرين الماليين والعناصر الحركية القادرة على التخطيط وتنفيذ هجوم إرهابي كبير للحد من القدرة العملياتية لداعش.
وتتحرك الأجهزة التركية باتجاه التضييق على خلايا داعش الكامنة وتقويض هيكلتها وحركيتها لمواكبة الاستنفار الدولي والإقليمي ضد التنظيم، وهي تعلم أنها موضوعة في قائمة المستهدفين بعمليات ثأرية.
وعلى مدار العامين الماضيين اعتقلت السلطات التركية المئات من ناشطي التنظيم ولعبت دورا رئيسيا في تصفية زعيمه السابق أبوالحسين القرشي بسوريا في أبريل 2023، علاوة على إلقاء القبض على أهم ميسريه الماليين وهو حذيفة الموري.
وأودت هجمات داعش في تركيا بحياة مئات الأشخاص من خلال مسلحين من دول آسيا الوسطى منذ بدء أنقرة المواجهة الجدية للتنظيم في عام 2014 بعد مرحلة من التهاون وغض الطرف عن الكثير من ممارساته، وصولًا إلى الهجوم الكبير في يناير عام 2017، حيث قُتل العشرات من الأشخاص في إطلاق نار على ملهى ليلي بإسطنبول عشية رأس السنة.
وتتوخى تركيا القيام بدور محوري في عملية التصدي لنفوذ داعش خراسان لتأمين استقرارها وأمنها وتحقيق مكاسب، في ضوء حاجة الولايات المتحدة ودول في أوروبا، وأيضًا روسيا، ودول في آسيا الوسطى إلى تقويض نفوذه وتحجيم تهديداته بعد نشاطه اللافت حركيًا ودعائيًا خلال الفترة الماضية.
الأجهزة الأمنية تخشى أن تتحول تركيا إلى ساحة بديلة يثبت فيها داعش قدرته على الاستمرار وتنفيذ عمليات إرهابية فيها
وتعاني الولايات المتحدة وحلفاؤها من الأوروبيين، وروسيا بعد هجوم داعش الأخير على أراضيها، من عدم وجود شركاء جادين وموثوق بهم في دول آسيا الوسطى، قادرين على لعب دور فاعل في القضاء على خطر تنظيم داعش خراسان نهائيًا.
وعلى الرغم من فرضية قبول الغرب لحركة طالبان كشريك مُحتمل في القتال ضد داعش خراسان، إلا أن الحركة الأفغانية المسيطرة على السلطة في كابول تمعن في توظيف ملف مكافحة الإرهاب العابر للحدود في تثبيت سلطتها المنفردة عبر الإيحاء بأنها تخوض حربًا ثقافية ضد الغرب.
وتحدى زعيم طالبان هبة الله أخوند زاده الغرب مؤخرًا بإعلانه العودة إلى تطبيق العقوبات البدنية، ورجم النساء حتى الموت، بحجة تطبيق الشريعة.
وتستغل حركة طالبان الظروف الراهنة وتنامي خطر داعش خراسان إقليميًا وعالميًا وتلقيها عروض تعاون من روسيا، مع وعود برفعها من قائمة الإرهاب، ما يجعلها تستغني عن التعاون الأميركي المشروط والتسويات التي تقوض مكانتها العقائدية في أوساط مؤيديها الأساسيين.
وإذا دفعت طالبان بأن تحل روسيا محل الغرب والولايات المتحدة في الساحة الأفغانية، على غرار ما جرى في العديد من دول الساحل الأفريقي تحت ذريعة مكافحة داعش، فلن توجد ضمانات تحول دون مواصلة طالبان اللعب والمناورة بورقة الإرهاب.
الأجهزة التركية تتحرك باتجاه التضييق على خلايا داعش الكامنة وتقويض هيكلتها وحركيتها لمواكبة الاستنفار الدولي والإقليمي ضد التنظيم
وما كان لحركة طالبان أن تواصل هيمنتها وسط سلبياتها وفشلها في حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة بالبلاد، إلا من خلال تضخيم فزاعة داعش وجعل الجميع في الداخل والخارج يقبلون بها كأخف الضررين وبوصفها الخيار الأقل سوءًا.
ويبدو أن قادة جمهوريات آسيا الوسطى خيار أفضل للتعاون من طالبان والمخابرات الباكستانية التي لعبت لعبة مزدوجة على مدى العقدين الماضيين، بالنظر إلى النموذج الذي تطبقه السلطة في طاجيكستان التي تُعد المورد البشري الرئيسي لداعش خراسان، حيث يجمع بين التسلط والاستبداد وقمع الحريات الدينية، ما يجعل المشكلة مستمرة دون قدرة على معالجة أسبابها الجذرية.
وتقدم تركيا نفسها للأطراف الدولية الفاعلة كشريك وحليف أكثر موثوقية في مكافحة تنظيم داعش خراسان في المنطقة والعالم لتعويض قلة فاعلية الأطراف المرتبطة بالملف ولكسب عوائد سياسية وأمنية واقتصادية عبر لعب دور نوعي خلال مرحلة تشعر فيها مختلف المحاور بالتهديد.
ولا ترغب تركيا في أن يُنظر إليها أوروبيًا وأميركيًا ومن قبل روسيا على أنها جزء من مشكلة استمرار تهديد داعش خراسان، بعدما ثبت عمليًا أن التنظيم العابر للحدود يستغلها كساحة ترانزيت للتنقل من سوريا إلى أفغانستان ثم إلى المناطق المستهدفة حول العالم.
وقد آوى قادة فرع تركيا في تنظيم داعش خراسان مسلحين قادمين من آسيا الوسطى وروسيا وراغبين في التوجه إلى سوريا وأفغانستان لفترة من الوقت قبل توزيعهم ضمن صفوف التنظيم وفقًا للمهام الموكولة إليهم.
ومن مصلحة تركيا في المرحلة المقبلة أن تعظم حضورها إقليميًا ودوليًا بالإسهام في تقويض قدرات تنظيم داعش خراسان، في ظل تنامي وتيرة التهديدات الإرهابية بالمنطقة الآسيوية وتلك المرتبطة باحتمال توسع أنشطة التنظيم على المستوى الدولي عبر المجموعات الصغيرة والذئاب المنفردة.