تركيا بعد الانتخابات: صوت المذاهب
بات الميدانُ التركي مشرّع المساحات أمام رجب طيب أردوغان لتصفية حسابات كثُرت في الآونة الأخيرة. لا يخفي رئيس الوزراء التركي حقده على خصومه “الخونة” على حدّ تعبيره، ويجاهرُ في نيته الانتقام مما ارتكبوه بحقه وحقّ عائلته وأصدقائه وحزبه والمقربين منه.
يدفعُ زعيم حزب العدالة والتنمية عنه التهم التي كيلت له ولصحبه، لا سيما تلك المتعلقة بالفساد. يعتبرُ الأمر مؤامرة خارجية يتولى تنفيذُها التنظيم الذي يقوده الشيخ فتح الله كولن (من منفاه في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة). التنظيم، حسب أردوغان، متغلغلُ داخل مؤسسات تركيا العميقة، ويشكّل دولة موازية تعملُ بناءً على هيكلية داخلية منفصلة عن هيكلة الدولة التركية. يعملُ أردوغان وفق شعبوية محترفة هدفها ورشة تزيلُ من خلالها صناديق الاقتراع ما يمكن لمؤسسات العدل والقانون أن تعبث به ضده. هكذا أتت نتائج الانتخابات البلدية تنفخُ في أشرعة رئيس الوزراء، زعيم الحزب الحاكم، والمرشح المقبل لرئاسة فوق العادة للبلاد.
لم تكن لتلك الانتخابات المحلية أن تغيّر في المشهد السياسي العام. فالانتخابات التشريعية المنوط بها هذا التغيير مُبرمجة في صيف عام 2015. كان مطلوباً من الانتخابات البلدية التي جرت الأحد الماضي أن تكون استفتاءً شعبياً جديداً على شعبية أردوغان وحزبه.
جاءت النتائج شبه كاسحة (ما يقارب 46 بالمئة) مع استمرار سيطرته على كبرى المدن التركية باستثناء مدينة أزمير الساحلية معقل المعارضة. تؤكدُ النتائج النفوذ الشعبي لحزب العدالة والتمنية وزعيمه.
جاءت نسبة الفوز أعلى من تلك المسجّلة (39 بالمئة) في الانتخابات البلدية السابقة عام 2009. وأياً تكن اتهامات التزوير التي وجّهتها المعارضة، إلا أن الأغلبية المريحة التي منحها الأتراك لرئيس وزرائهم ستتداعى على المستقبل السياسي التركي على المدييّن القصير والمتوسط.
في سلسلة التصريحات النارية التي أطلقها رجب طيب أردوغان، وفي مجموعـة من الإجراءات التي كان أحدَثها منـعُ تـويتر ويوتيوب في تركيا، يتخوّف المراقبـون مـن نزوع الحكـم الأردوغـاني نحو الديكتـاتوريـة.
سيطلقُ الاقتراع البلدي يد أردوغان في اجتثاث ما يصفه بالدولة الموازية داخل تركيا، وسيذهب بعيداً لاجتثاث “سرطان” كولن الذي ترعرع في أحشاء الدولة التركية ونظامها السياسي الأمني الاقتصادي والإعلامي. إنها الحرب الكبرى، هكذا وصف وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو عمليات المراقبة وتسجيل اجتماعات المسؤولين الأتراك، والتي تسرّبت لوسائط الاتصال الاجتماعي. اللغةُ لغة حرب، وفي الحرب تُستخدم أدوات الحرب.
وفّر الاستفتاء البلدي تغطيةً شعبية لتدابير أردوغان وحكومته المقبلة للانتصار فيها، كما عكست الانتخابات احتضاناً شعبياً لأردوغان في مواجهة الأزمات المتعددة التي تتالت منذ مظاهرات “تقسيم” دفاعاً عن حديقة “غازي بارك” الصيف الماضي، انتهاء مؤخراً بالنيل من نزاهته ونزاهة ابنه وصحبه في الحكم عبر فضائح فساد لا تنتهي.
يستيقظُ حزب الشعب الجمهوري المعارض على الهزيمة، لكن الحزب يهوّن من وقعها بالتذكير بحصوله على نسبة كبيرة من الأصوات في المدن الكبرى، مثل إسطنبول وأنقرة وأزمير. لكن “الشعب” متفاجئ إيجابياً بحصوله على نسب عالية من الأصوات في المناطق الريفية التي كان يخسرها من قبل، وهو أمر لا بد أنه يدعو جميع المعنيين للتأمل، لا سيما من قبل حزب العدالة والتنمية.
وفي تشريح لافت لتلك الانتخابات يظهر جلياً مدى حيوية العامل المذهبي في تحديد توجّهات الناخبين. فقد فشل حزب العدالة والتنمية في الفوز بمحافظة أنطاكيا (هاتاي) الحدودية الهامة مع سوريا في خسارة هي الأولى له منذ أكثر من عشر سنوات. في المقابل تفوّق الحزب في محافظة أنطاليا التي تتركز فيها نسبة كبيرة من العلويين الأتراك (أنطاليا إحدى قواعد حزب الشعب الجمهوري إضافة إلى أزمير)، كما نجح في الفوز ببلدية أنطاليا، المدينة التي يسكنها خليط من السنة والعلويين.
ورغم أن العلويين الأتراك والعرب يتفقون في ولائهم لحزب الشعب الأتاتوركي، إلا أن العلويين العرب في أنطاكيا أكثر تشددا في رفض حزب أردوغان، وأكثر قربا من النظام السوري. وباعتماده على ولاء العلويين العرب (40 بالمئة من إجمالي سكان المحافظة)، تمكّن حزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي) من تحقيق المركز الأول، في أنطاكيا، ما أجهض جهود أردوغان في السيطرة على المحافظة ذات الموقع الاستراتيجي، لا سيما لجهة موقعها على الحدود السورية وتحكّمها بمنفذين حدوديين (مراقبون يعيدون تفوق حزب الشعب في هذه المنطقة لتوحد كامل الكتلة الانتخابية للعلويين وراءه، بينما تفرقت أصوات السنة بين حزبي العدالة والحزب القومي).
واللافت أنه وبالرغم من حالات الاعتراض الكبرى التي تعرض لها الفريق الحاكم، وعلى الرغم من التسريبات التي تتحدث عن فضائح فساد تطال كبار المسؤولين في الحكومة، فإن شيئاً ما دفع الناخبُ التركي لتجديد الثقة بأردوغان وحزبه.
وقد يعود ذلك إلى أسباب سيكولوجية تتعلق بتشبث الأتراك بما هو موجود وحقق إنجازات ونقل البلاد من عوز إلى بحبوحة، كما تتعلق برد فعل عكسي أحدثته تسريبات اليوتيوب المتنصتة على كبار المسؤولين في الدولة بما اعتبره الأتراك اعتداء على سيادة بلدهم لا على الفريق الحاكم (في تركيا من يقول أن جهات حكومية كانت وراء هذا التسريب لصناعة رد فعل عكسي لدى الناخب في الساعات الأخيرة قبل موعد الانتخابات).
لكن سبب فوز العدالة والتنمية يعود أيضا لأسباب موضوعية تتعلق بضحالة أداء المعارضة، وغياب برنامج واعد يكون نداً مطمئناً لإنجازات العدالة والتنمية، ناهيك عن اعتماد الخطاب المعارض على توجيه الانتقادات للحكومة وحزبها دون تقديم بدائل أخرى مقنعة.
يستعيدُ أردوغان برشاقة زمام المبادرة التي بدا أنه فقدها في الأشهر الأخيرة. يستعين الرجلُ بجمهوره الانتخابي لينزع فتيل الاعتراض في الشارع. يُثبت أردوغان أن قدرته على الحشد الجماهيري المؤيد تواكبها قدرة على حشدٍ اقتراعي حاسم يقارعُ به أعداءه الأتراك في الداخل كما أولئك في الخارج، كما يجابه به تلك الحملات الدولية التي راجت ضد أدائه الديمقراطي وإنجازاته في مجال حقوق الإنسان.
يمسك أردوغان بالنصر ليطل به على الخارج، ويعتبره، في إحدى خطبه، نصراً لـ”إخوانكم في مصر وفلسطين وسوريا والبلقان”.
يخرجُ أردوغان مزوّداً بما تيسّر من المقويّات الاقتراعية والفيتامينات الاستفتائية ليباشر بها رحلته نحو الرئاسة في انتخابات الصيف المقبل (لأول مرة ينتخب الرئيس من الشعب مباشرة). يهدي ناخبو حزب العدالة والتنمية أردوغان نصراً جديدا يحمله سلطانا على تركيا. يفصّل أردوغان ثوب السلطة القصوى على قياسه، وتتأكدُ زعامته حيث لا حياة لتيارات أخرى أو آراء مغايرة داخل حزبه. تتقدمُ الأردوغانية، كما تقدمت دائماً زعيمة للعدالة والتنمية، ملقية ظلالا كثيفة على ما قيل أنه اختلاف يعبّر عنه الرئيس عبد الله غول.
لكن ما هو تمرينٌ ديمقراطي روتيني، يتحوّل هذه المرة في تركيا إلى خوف من مستقبل مجهول. وما هو انتصارٌ واضح لحزب أردوغان يثيرُ لدى عديد من المراقبين القلق والريية. فعدم قدرة المعارضة على تسجيل اختراق لافت في المشهد الانتخابي العام، سينشّطُ وسائلَ الاعتراض البديلة، سواء في طبعتها الكلاسيكية التي شهدت الشوارع العربية تمازجها مؤخراً، أو في طبعتها القديمة التي قد توقظ العسكر في ثكناته.
ويتذكر الخبراء في شؤون تركيا أن التجارب الانتخابية السابقة منذ خمسينات القرن الماضي تشي بأن البلاد لا تأنس لهيمنة متكررة لحزب واحد في السلطة، وأن ردود فعل دراماتيكية سُجّلت في الماضي لقلب هذا الواقع. ربما ذلك ما يجعل الأتراك، بمن فيهم أنصار الحزب الحاكم، يتوجسون من أيام صعبة مقبلة.
صحافي وكاتب سياسي لبناني