ترحيل الأزمة السورية
نال القرار الدولي 2254 الذي أقره مجلس الأمن الدولي حول الأزمة السورية على إجماع أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين. واعتبر السوريون أن تسوية ما قد حصلت وتم الاتفاق بين هذه الدول لإنهاء أصعب أزمة يواجهها العالم وأشدها دموية.
واعتقد الكثيرون أن الدولتين الأكبر والأعتى روسيا والولايات المتحدة قد اتفقتا أخيرا، واتّفقت أيضا الدول الإقليمية ذات الصلة المباشرة بالأزمة وعلى رأسها السعودية وإيران وتركيا على كل شيء.
ورغم أن القرار احتوى على نقاط إيجابية تتوافق مع ما تطلبه المعارضة السورية كوحدانية الحل السياسي ووحدة سوريا وإيقاف إطلاق النار ووقف قصف المدنيين وقرار جنيف كمرجعية وتوافقات فيينا، وتحديد سقف العملية التفاوضية والانتقالية، إلا أن الغالبية العظمى انتقدته لأن أكثر من نصف بنوده مُلتبسة وغامضة وضبابية وقابلة لأكثر من تفسير وقراءة، وخاضعة للشدّ والجذب والمدّ والتقليص، حاله كحال مرجعيات جنيف وفيينا التي اعتمد عليها، وهي بالأساس غارقة في الضبابية والغموض “البنّاء” وفق مُيسّري إصدار هذه البيانات.
في اللحظة التي نُشر فيها القرار الدولي بدأ كل طرف سوري يُفسرها وفق رؤيته، والمعني ليس فقط النظام والمعارضة، وإنما حتى أطراف المعارضة (بمن فيها المتفقة حول مؤتمر الرياض) قدّمت قراءات مختلفة تراوحت بين الإيجابية جدا وبين المفرطة في سلبيتها، وكذا الأمر بالنسبة إلى الدول المعنية، التي عبّرت عن ارتياحها للقرار لكن مسؤوليها أطلقوا تصريحات تنسجم مع تفسيرهم الخاص لبنود القرار.
تألف القرار من مقدّمة وست عشرة مادة، تضمنت المقدمة مبادئ توصيفية عامة للحالة المتردية التي وصلت إليها سوريا، ودعت إلى “إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة”، تعتمد في تشكيلها على “الموافقة المتبادلة”، مع الحفاظ على المؤسسات الحكومية، طابعها غير طائفي وتحمي الجميع بغض النظر عن العرق والدين وتضمن وصول المساعدات للجميع، وشرعنت معارضي مؤتمري موسكو والقاهرة وطبعا معارضي مؤتمر الرياض.
المقدمة وحدها تحتوي خمس قضايا شائكة غامضة وملتبسة إلى أبعد حد، مرّ عليها مجلس الأمن مرور الكرام، فلم تُفسّر من سيُخوّل هيئة الحكم بالصلاحيات، وهل هي “كل الصلاحيات” أم “صلاحيات كاملة”، ثم ما مصير السلطات التشريعية والقضائية والدستورية، وهل الموافقة المتبادلة على الهيئة الحاكمة تعني أن النظام يمكن أن يرفض أي معارض لا يريده -وهو جاهز لرفض الجميع إن استطاع- ثم هل يعني الطابع “غير الطائفي” علمانية الهيئة، أم أنه مؤشر مسبق على أن الأقلية ستلعب دورا كبيرا فيها وللأكثرية دور صغير، ثم هل يفتح التنويه بأصحاب مؤتمر موسكو (ومعظمهم موالون للنظام) الباب لهم للمشاركة بوفد المعارضة المُفاوض. كذلك كانت المفاهيم مُلتبسة في أكثر من نصف المواد الست عشرة التي تلت المقدمّة، فأتت غير حاسمة ولا تُقدّم إجابات واضحة، ينخرها مبدأ سوء التفسير، بل من الواضح أنها وُضعت لتبقى أبواب التفسير مفتوحة، فيما يوحي بأن الأطراف ليست متّفقة على تفسيرها وتركت الأمر إلى مرحلة لاحقة.
أشار القرار إلى “تأييد بيان جنيف وبياني فيينا” وهما بالأساس بيانان غير متطابقين بل ومختلفان، وشدد على أن “الشعب السوري هو من سيقرر مستقبل سوريا” ولم يُجب كيف يمكن ذلك في بلد تسيطر عليه الأجهزة الأمنية وجيش النظام وميليشيات إيران وسلاح الجو الروسي.
وأقرّ بـ”دور الفريق الدولي باعتباره المنبر الرئيسي لتيسير الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة” ما يُفهم منه أن الفريق الدولي هو من سيُشرف ويوافق ويقرر كل شيء لا الجمعية العامة للأمم المتحدة ولا مجلس الأمن. وشدّد على ضرورة أن يدخل إطلاق النار حيز النفاذ “بمجرد أن يخطو ممثلو الحكومة السورية والمعارضة الخطوات الأولى نحو انتقال سياسي” وهي عبارة إشكالية قد تعني وقف إطلاق النار مع بداية المفاوضات أو مع تشكيل الهيئة الحاكمة أو بعد وضع الدستور أو في وقت آخر غير ذلك.
كذلك دعا إلى مواجهة الأعمال الإرهابية التي يرتكبها تنظيما الدولة الإسلامية وجبهة النصرة و”غيرهما من الجماعات الإرهابية على النحو الذي يعنيه مجلس الأمن”، أي وفق القوائم التي يضعها الأردن بالتعاون مع جميع الأطراف بما فيها استخبارات النظام، وهو سلاح مرفوع بوجه كل المعارضة السورية المسلّحة التي ستخضع للضغوط والابتزاز والمساومة لحد الإذلال خوفا منه.
ودعا القرار الأطراف أن تسمح للوكالات الإنسانية بالتحرك بحرية، وتُفرج عن المحتجزين تعسفيا”، وهذه الدعوة رجاء لا يحمل قوة الإلزام، فضلا عن أن الجميع يعرف أن النظام ينفي احتجازه “تعسفيا” أي مواطن، ويُشرعن كلامه بأن العشرات من الآلاف متهمون بالإرهاب، وهو لن يُطلق سراح أحد لأنه (مُحترم) ويحترم استقلالية القضاء.
وأخيرا طالب القرار جميع الأطراف بوقف الهجمات ضد المدنيين والاستخدام العشوائي للأسلحة المدفعية والجوية، لكن النظام وروسيا يقصفان بكل عنف المدنيين ويقولان إنهما يستهدفان “أوكار” الإرهابيين، وهذا القرار لن يُغيّر من سياستهما شيئا، فحجج من هذا النوع جاهزة دائما.
كل هذا الغموض والقصور والصياغات ناقصة المعنى والعبارات الركيكة عن عمد، لا تعني أن القرار سيء أو أنه لن يُقدّم أو يُؤخّر، فهذا موضوع يعتمد على طبيعة المفاوضات، وستوضّحه الأسابيع لا الأشهر، لكن ما يمكن الجزم به أن المسافة بين الأطراف المحلية والدولية والإقليمية ذات الصلة بالأزمة السورية مازالت بعيدة، والخلافات موجودة ومستمرة، منها ما يتعلق بجوهر التسوية ومنها ما هو هامشي يحوم على أطرافها، تبدأ بعدم انسجام تركيبة وفد المعارضة المفاوض، وغموض مفاهيم وخطوات وتوقيت وقف إطلاق النار، وفخ تصنيف المنظمات المقاتلة بقوائم الإرهاب، وحجم صلاحيات الهيئة الحاكمة ومهامها وطبيعتها، وعقدة مصير الأسد وموقعه بالحكم وبالقرار، وصولا إلى مدة العملية التفاوضية وجوهرها، والأهم من كل ذلك إغفاله بشكل مُطلق مصير ومآلات الأجهزة الأمنية وجيش النظام والجيش الحر والكتائب الثورية الأخرى.
يبدو أن المجتمع الدولي أدرك أن الأزمة ذاهبة لأن تُصبح كارثة دولية، وعلى الرغم من اختلاف أطرافه قرر أن يبني حلا على المتوافق عليه فقط، وترحيل كل ما ليس متفقا عليه لمرحلة لاحقة، ويعتبر ضمن القرار أن القضايا المتفق عليها واضحة ولا تتحمل التأويل، ويُبقي القضايا الخلافية غامضة وضبابية وقابلة للتأويل والتفسير، والاتكاء على مقولات عامة وفضفاضة، إلى حين الاتفاق عليها لاحقا، وهذا الـ”لاحق” في الغالب ستُحدده موازين القوى على الأرض، ومدى تمسّك الدول ذات العلاقة بمطالب هذا الطرف أو ذاك، والمحادثات والتوافقات الجانبية بينهما، والأثمان التي ستُدفع والضغوط التي ستُمارس، وأيضا من يقدر على تحمّل عض الأصابع أكثر.