تربية الحمام في مصر رزق معلّق فوق السطوح

يبحث المصريون عن مصادر رزقهم في هواياتهم مثل تربية الحمام فوق سطوح منازلهم، حتى أصبحت لكل مدينة وقرية سوق أسبوعية لتجارة الطيور، كما انتشر هواة نش الحمام خاصة بين الشباب الذين اختاروها هربا من شبح البطالة فاكتسبوا خبرة في أنواعها وطريقة تربيتها، وجعلوا لها قوانين تنظم علاقاتهم ببعضهم، مثل الدية التي تسلّم مقابل حمامة نزلت خطأ عند مرب آخر.
القاهرة - يقضي معوض (الشاب الثلاثيني) جزءا كبيرا من وقته فوق سطح منزله، داخل “الغيّة”، وهي الحظيرة التي أقامها لتربية الحمام، بعد أن أسرته تلك الهواية قبل أكثر من 10 أعوام، حتى صار شغله الشاغل، الاعتناء بهذه النوعية من الطيور، وتدريبها على الطيران، وقبل مغيب الشمس يقف مستمتعا بطيوره وهي تحلق في السماء، وتدور بينه وبين طيوره لغة حوار تعتمد الإشارة والصافرات.
فوق أسطح كثيرة من البنايات السكنية في مصر، يلفت الانتباه كثرة التصميمات الخشبية، وهي حظائر مخصصة لتربية الحمام، التي تزداد في مصر يوما بعد يوم، لأنها تجمع بين الهواية والتجارة المربحة، لذا لم يجد عاشقوها بدا من بناء أبراج فوق أسطح المنازل يمارسون فيها ولعهم بهذه الهواية، ويتطلعون أيضا إلى تحقيق هامش ربح مادي جيد.
بالنسبة للتجارة فقد انتشرت في أماكن مختلفة، وحاليا لا تخلو مدينة أو قرية من سوق أسبوعية مخصصة لبيع الحمام، أشهرها السوق المقامة في منطقة السيدة عائشة، وهي أحد الأحياء الشعبية في العاصمة المصرية القاهرة.
ووفقا لتقديرات صدرت عن معهد بحوث الحيوان التابع لوزارة الزراعة في مصر، تقدر أعداد الحمام التي يتم تربيتها بنحو 45 مليون طائر بميزانية تقدر بحوالي 2 مليار جنيه (حوالي 220 مليون دولار).
أما عن هواية تربية الحمام فهي عالم مليء بالأسرار، وهي أكثر ما يجذب الهواة، الذين يتوحدون مع الطيور لدرجة يتخيل معها البعض أن ثمة حوارا بنظرات العين يدور بين المربي والطائر، وهناك أنواع كثيرة من الحمام تنتشر تربيتها في مصر ويتجاوز عددها 40 نوعا، منها، الزاجل أشهر وأغلى الأنواع، والبلدي والشامية والعبسي والسلطاني والملوكي والصفي والكركندي والشقلباظ واليمني والرومي والهزاز.
وتلعب دقة الملاحظة دورا مهما في التربية، ويكتسبها المربون بالخبرة للتمييز بين الحمام الذي قد يبدو للبعض أنه متشابه في الشكل، إلا أن هناك اختلافات كثيرة، فالذكور عادة ما تكون أكبر من الإناث حجما وأكثر قوة وطولا، وغالبا ما يكون رأس الذكر أكبر من رأس الأنثى بفارق بسيط. كما أن وقفة الذكر تكون منتصبة لأعلى، وصدره عريض مفرود ويسير في تعال وثقة، وريشه أكبر من ريش الأنثى، ويكون أكثر لمعانا عند تعرضه لضوء الشمس، بينما الأنثى تبقى عادة منكمشة في وقفتها، وتسير في خجل، وهي دائمة التلفت برأسها يمينا ويسارا بسبب شعورها الدائم بالخوف.
ويفتخر هواة تربية وتجارة الحمام بحجم “الغية”، التي غالبا ما تصنّع من نوعين من الخشب هما، البغدادلي والموسكي، وتقاس قيمتها بمستوى ارتفاعها، الذي يصل إلى عشرة أمتار، ويصل إليها صاحبها بواسطة سلم خشبي، كي يقوم بإطعام الحمام وتنظيفه، وتقاس أيضا قيمة “الغية” بما تحضنه من أنواع نادرة غالية الثمن.
ويشرح أحمد إبراهيم، الخطوات الأولى في تربية الحمام، قائلا لـ”العرب”، إنها تبدأ بشراء الزغاليل، وهي صغار الحمام كي تألف صاحبها، ويتم تدريبها على الطيران حينما يكتمل ريشها.
وأشار إلى أن لكل نوع من الحمام ميزة خاصة، لا يعرفها إلا المحترفون، ممن تمكنهم خبرتهم من تمييز الحمام، حسب نوعه وموعد قدرته على الطيران، ويبدأ التدريب على الطيران بنصف ساعة أو ساعة كاملة تزداد تدريجيا.
للحمام البلدي دور كبير في تربية صغار أنواع أخرى كثيرة، لأن بعضها وأشهرها “الغزار”، لا يستطيع إطعام صغاره، لأن منقارها صغير للغاية، لذا هناك ما يعرف بالتحضين، وهو وضع بيض الغزار أو صغاره أسفل الحمامة البلدي، حتى يكبر ويتآلف سويا، خصوصا أن الحمام البلدي لا يعرف البيض أو الصغار، إذا كانت لأم أخرى، لكن حينما تكبر فإنها تعرفه وتتركه.
وأوضح إبراهيم، أن تربية الحمامة تستغرق من 7 إلى 8 أشهر، حتى تكبر وتستطيع الطيران، وقد يصل عمر بعض الأنواع إلى 15 عاما، وكلما كانت الحمامة قوية تمكنت من الطيران حتى سن متقدمة.
يتغذى الحمام مرتين يوميا، إحداهما في الصباح الباكر، والثانية قبل غروب الشمس بنحو ساعتين، ويقدّم المربي كمية من الغذاء بحيث يمكن أن تنفد بعد ساعة أو ساعتين، ثم يقوم بإزالة الغذاء المتبقي، حفاظا على نظافة المكان، مع مراعاة توافر عدد كاف من أواني الطعام، كي تستوعب عدد الحمام في نفس الوقت، وتعتمد “عليقة” الحمام، وهي “وجبة الطعام” على الذرة الصفراء والقمح والبازلاء.
أما الزغاليل، فيتم تغذيتها عن طريق “التزغيط” حتى تبلغ 28 يوما، ويقوم المربي بوضع الحبوب في الماء لمدة 4 ساعات كي تلين، ثم يقوم بإطعام الصغار باليد، أما الماء فيسقى بواسطة “سرنجة أو أنبوبة” بلاستيكية.
ويطلق هواة تربية الحمام على طيرانه مسمى النش، وهي المرحلة الأكثر متعة في الطيران، وهو موعد يومي قبل وقت الغروب، يتفق فيه أصحاب الغيات المتجاورة على إطلاق الحمام، ثم يطلقون بأفواههم الصافرات المنغمة، وهي لغة الحوار بينهم وبين الطيور، كما يرفعون رايات مصنعة من القماش بغرض حث الحمام على الطيران لأبعد نقطة ممكنة.
ويصف مصطفى الرفاعي أحد محترفي تربية الحمام هذه الهواية بأنها إدمان، وقال لـ”العرب”، إن من يعشق تربية الحمام لا يستطيع أن يتخلى عنها مهما حدث، ولفت إلى أجمل ما في هذه الهواية، وهو طيران الحمام قبل المغيب، وتتشابك أسراب الحمام في السماء في مشهد خلاب، ثم تعود كل واحدة في اللحظات الأخيرة من الغروب إلى غيّتها.
يطلق الرفاعي صافرته باتجاه الحمام المنطلق بحرية في السماء، فتفهم جيدا تلك الإشارة وتحلق بعيدا، لكن في أوقات كثيرة يحط الحمام في غيّة أخرى قد تكون بعيدة عن المنطقة السكنية، لأن هناك من يهوى اصطياد الحمام الغريب، بوضع مصيدة أعلى غيته، فإذا رأى حمامة غريبة حطت أطبق عليها المصيدة، لتصبح من ممتلكاته، وقد تكون مرتفعة السعر أو نادرة، فيحزن عليها صاحبها بينما يستفيد الصائد من بيعها.
يتبع الهواة بعض القواعد عند حط الحمام الغريب على غيّة أحدهم، لأن من يصطاد حمامة غريبة ويحتفظ بها دون أن يعيدها لصاحبها يعتبرونه خصما لهم، وهناك من يعيدها مقابل “دية” أي مبلغ مالي يتم الاتفاق عليه.
ولكل نوع من الحمام غرض وهدف من اختياره للتربية، فهناك نوع يربى لسرعة طيرانه مثل، حمام القزاز، وهناك ما يربى لجمال شكله، مثل الهزاز والنمساوي، ومنها ما يربى لطيرانه إلى مسافات بعيدة ويعود ثانية إلى مسكنه، مثل الزاجل، ومنها ما يربى لجمال صوته، مثل الحمام اليمني، ومنها ما يربى لطريقة طيرانه الغريبة مثل “الشقلباظ”، وسمي بهذا الاسم لأنه يتقلب أثناء الطيران ويغير وضع جسمه عدة مرات ثم يعود إلى الوضع الطبيعي للطيران.
وينقسم الحمام أيضا إلى فصائل، وتتنوع لأكثر من فصيلة، على رأسها الحمام الغزار المزركش بألوان عديدة، كالعنبري والأحمر، والزاجل وحمام المراسلات المصري، والحمام الشامي والهندي والأوروبي أو الباكستاني، أما نوع الأبلا فهو الأعلى سعرا ويصل سعر الزوج منه نحو 1500 دولار، يليه حمام الصوافة ويصل سعره إلى ما يعادل 500 دولار. ويعتبر الحمام الزاجل من أشهر أنواع الحمام، وهو المعروف بمواصفات خاصة تميزه عن باقي الحمام، أهمها القدرة على الطيران لمسافات بعيدة تصل إلى آلاف الأميال، ولديه قدرة على العودة إلى أوطانه مهما طال بعده، لذا كان يستخدم قديما في المراسلات، كما يحتاج إلى أصول وقواعد خاصة في تربيته، ويستخدم حاليا في سباقات الحمام التي باتت معروفة وتقام سنويا في عدة دول.
إذا كان بعض الشباب في مصر يلجأ إلى تربية الحمام، هربا من شبح البطالة أو للوقوع في غرام أسرار تلك الكائنات، فإن بعض المعتقدات الشعبية تشير إلى أن دم الحمام له مفعول كبير في إبطال أعمال السحر والشعوذة، كما أن هناك من يعتقد أن تناول لحم صغار الحمام هو نوع من المقويات يفيد المتزوجين حديثا.