تراجع قوة الحركات المسلحة في المنطقة

مهما كانت نتيجة المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، فإن ما سوف ينتج عنها في النهاية لن يكون في صالح الأخير، فما جرى في قطاع غزة مع حركة حماس وما يدور حاليا في جنوب لبنان فتح أعين قوى دولية عديدة على الخطورة التي يحملها استمرار الحركات المسلحة التي لديها مشروعات سياسية محددة، وتعمل بالتنسيق والتناغم مع قوة إقليمية مثل إيران، والتي إذا لم تحقق أهدافها كاملة عبر أذرعها تستطيع خلط أوراق المنطقة، بما تملكه من أدوات عسكرية.
تختلف حماس وحزب الله عن الكثير من الجماعات المسلحة في كونهما تتدثران بمشروع جذاب يتعلق بالمقاومة ومحاربة الاحتلال الإسرائيلي، ويجعل من يختلفون مع برنامجهما يتعاطفون معهما أحيانا، خاصة عندما يأتي الاستهداف بقسوة من جانب إسرائيل، وإن لم يحدث تعاطف معهما أو كليهما لن تحصل إسرائيل على تأييد عربي ظاهر لخطواتها، حيث لا تزال في أذهان الكثيرين تمارس الغطرسة، ولا تضع اعتبارات للمجتمع الدولي وقوانينه، والإجراءات التي تتبناها الأمم المتحدة.
تدرك حماس وحزب الله ومن يدورون في فلكهما أهمية وجود هذه الشريحة في الشارع العربي، وإن فتر الحماس والدعم كثيرا لما وصف بمحور الممانعة أو المقاومة، لكن مواصلة التعاطف في حده الأدنى توفر بيئة جيدة أو حضانة لمن سوف يقومون بالدور نفسه في المستقبل، ورهانهم على نبذ الإسراف الإسرائيلي في التدمير أكثر من قدرتهم في الحفاظ على الشريحة التي تتم دغدغة مشاعرها منذ عقود.
◄ كسر شوكة حزب الله في المعادلة الداخلية في لبنان أو الإقليمية يحتاج إلى قدر كبير من الجرأة في إيجاد تسوية للحالة التي أدت إلى نمو الحزب وتمدده
وأخطر ما كشفت عنه المواجهة بين إسرائيل وحماس، ثم مع حزب الله بشكل أكبر، أن الاعتماد على فكرة التوسع في التجنيد وحشد الآلاف أو حتى الملايين لم يعودا ذَوَيْ جدوى، فالتكنولوجيا المتقدمة تجهض دور الوسائل التقليدية، ومن يمتلك المعلومات ستكون يده أطول في الوصول إلى أهدافه بسهولة.
ومن يتمكن من اختراق حصون خصمه الخلفية لن يهيبه عدد المقاتلين، ففي غضون أيام قليلة اخترقت إسرائيل الصفوف الأمامية لحزب الله وكبدته خسائر فادحة في قياداته التي تحتل مرتبة متقدمة في هيراركية قيادية محكمة، ما أدى إلى ارتباك في العمليات العسكرية، كاد يؤدي إلى شلل تام لهياكل الحزب، حيث فقد توازنه الميداني لنحو أسبوعين، نجحت فيهما إسرائيل في تجفيف الكثير من الجيوب المزعجة لها في جنوب لبنان، وعندما أخذ الحزب يسترد زمام المبادرة بدأت الأمور تنذر بانفجار إقليمي واسع، فمع دخول إيران المفاجئ على خط المواجهة تغيرت الحسابات.
لن تفضي كثافة التجنيد وضخامة الترسانة العسكرية والشعارات الرنانة إلى منح الحركات المسلحة تفوقا نوعيا، وحرب العصابات التي عرفت بتفوقها فيها على الجيوش النظامية تأخذ في التآكل تدريجيا، والجيوش لن تكون بحاجة إلى التحامات مباشرة واسعة كي تحقق سيطرة ميدانية على الأرض، فالتكتيكات المتنوعة التي اتبعتها إسرائيل مع حماس ساعدتها على التخلص من جزء كبير من قوتها، وتفجيرات البيجرز والووكي توكي واغتيال عدد كبير من الشخصيات القيادية في حزب الله تمت عن بعد وعبر تقنية عالية، وهي ثغرة يصعب أن تسدها الحركات المسلحة بسهولة، أو تتمكن من مبادلة إسرائيل الضربات من خلالها.
ويقود هذا الخلل إلى تقزيم دور الحركات المسلحة عندما تواجه جيوشا احترافية ومتقدمة، وقد يجبرها على التقهقر، لأن قواعد اللعبة هنا تغيرت، والميادين التي برعت فيها الجماعات وخبرت خباياها لن تكون الفضاء الوحيد للمواجهة، إذ جرّت إسرائيل كلا من حماس وحزب الله إلى مربع يصعب مجاراتها فيه وفقا للمعطيات الراهنة.
أيقظ ما حدث في غزة وجنوب لبنان، وما قامت به جماعة الحوثي وميليشيات عراقية، بعض القوى الكبرى على كابوس الحركات التي ترعاها إيران وتقدم لها المساعدات، وفرضا عدم التهوين من أدوارها، وإن كانت تلبي أهدافا لقوى معينة من زاوية توظيفها في إرباك المشهد الداخلي في بعض الدول أو اتخاذها ذريعة لاستهدافات محددة، فحجم الضرر الذي يمكن أن ينجم عنها كبير، ما يعني الالتفات إلى أهمية تقويض قوتها بعد مرحلة من الانتشار الواسع لها، حيث تعددت وتنوعت أنشطتها في مناطق متعددة، وبعضها يقبض على المفاصل الحيوية في عدد من الدول.
◄ أخطر ما كشفت عنه المواجهة بين إسرائيل وحماس، ثم مع حزب الله بشكل أكبر، أن الاعتماد على فكرة التوسع في التجنيد وحشد الآلاف أو حتى الملايين لم يعودا ذَوَيْ جدوى
لجأت بعض الدول إلى رعاية ومهادنة وعقد تحالفات خفية مع حركات مسلحة، اعتقادا في أهميتها كقوة مضافة في الأماكن التي تنشط بها، أو لتجنب أذاها، أو تحسبا لصعودها في المستقبل، فعدد كبير من الجماعات يملك مشاريع سياسية، ولم يعد الدور محصورا في النطاق العسكري، كما أن قوى سياسية أخرى لجأت إلى الاستعانة بميليشيات كنوع من الحماية الأمنية، خاصة في الدول التي تعج بحروب وصراعات ونزاعات، حيث أصبحت تلك الميليشيات رقما مهما في الكثير من المعادلات الداخلية، وتقوم بدور مهم في توازناتها، بما يتجاوز البعد المتعارف عليه في السنوات الماضية.
هناك فروق واضحة بين الجماعات الميليشياوية والحركات المسلحة التي ترفع خطاب المقاومة ومناهضة المحتل، لكن ما حدث مع كل من حماس وحزب الله قد يعزز وضعهما في سلة واحدة من جانب بعض القوى لنزع البعد الوطني في الخطاب السياسي العام الذي يتبناه كلاهما، وللوصول إلى هذه النقطة من الضروري إيجاد حلول للقضايا الوطنية التي يتم تبنيها، بمعنى آخر إيجاد حل مناسب للقضية الفلسطينية التي لا تزال أم القضايا في المنطقة، فقد اعترف قادة في إسرائيل مؤخرا أن القضاء على القوة العسكرية لحماس ليس نهاية المطاف، لأنها فكرة والفكرة قد لا تموت.
كما أن كسر شوكة حزب الله في المعادلة الداخلية في لبنان أو الإقليمية يحتاج إلى قدر كبير من الجرأة في إيجاد تسوية للحالة التي أدت إلى نمو الحزب وتمدده بصورة أدت إلى تحوله إلى عبء على كاهل شريحة كبيرة من اللبنانيين، وهو ما يتطلب استدارة إيجابية يتبناها المجتمع الدولي للبحث عن تسويات سياسية حقيقية، وحرمان الحركات المسلحة، على شاكلة حزب الله، من فائض قوى لن يأتي عن طريق الحلول العسكرية، بل بنزع الروافع الوطنية التي تعتمد عليها، ولذلك فإن قوتها يمكن أن تتقلص أو تتراجع، لكن دورها سيظل مستمرا.
من المبكر التفكير في هذا الإطار، لكن الخلاصة التي يمكن استنتاجها من التطورات التي شهدتها المنطقة الفترة الماضية، أن الحديث عن مشاريع إقليمية جديدة، من الصعوبة تطبيقه وهناك قضايا مزمنة عالقة، أو يتم التعامل معها من خلال مسكنات أو حلول إقصائية.
اقرأ أيضا:
• التحرك الدبلوماسي السعودي يتطلب توافقا سياسيًا فلسطينيًا يبدأ بنزع سلاح حماس