تراجع غزة في حملة السيسي الانتخابية

بدأت انتخابات الرئاسة المصرية فعليا ويتنافس فيها الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي وثلاثة من المرشحين الآخرين، ولم يحظ موقفه الصارم من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بشأن مخطط توطين سكانها في سيناء بالدرجة العالية من الأهمية في الدعاية، وكان يمكن أن يؤدي التركيز على هذا الجانب إلى ضمان تفوق مريح للسيسي من دون استغراق حملته في تفاصيل مزعجة تتعلق بالأزمات الداخلية.
اختار الرئيس المصري، الذي ينشد إعادة انتخابه لمرة ثالثة، في دعايته طريقا يصعب تحقيق نتائج ملموسة فيه، وأهمل الملف الأمني الذي حقق فيه طفرات عملية على مدار السنوات التسع الماضية، وهي خطوة ترنو إلى المستقبل الذي يتطلع فيه الناس إلى تخفيف الضغوط المعيشية، فأيّ خطاب أمني مهما بلغت أهميته الآن لن يمحو آثار الأزمات الاقتصادية التي تواجهها شريحة كبيرة من المواطنين.
لا يشكك هؤلاء في قدرة النظام المصري على حماية الأمن القومي للبلاد، لكنهم يتشككون في إمكانية إحراز تقدم سريع على مستوى معاناتهم اليومية مع غلاء الأسعار وزيادة التضخم وعدم مواءمة الدخل مع حجم الإنفاق، وهو ما يعلمه السيسي ومنحه أولوية كبيرة في حملته الانتخابية، فالمطلوب إظهار ما حدث من تطورات تنموية وتبرير مقنع لعدم القدرة على تلبية التطلعات الفترة الماضية، مع وعود بأن الفترة الرئاسية الثالثة يمكن أن تكون فترة لجني الثمار، خاصة أنها الأخيرة بحكم الدستور وتتطلب أن تكون نهايتها جيدة وتتفق مع تطلعات من راهنوا عليها.
◙ البعد الداخلي لا يزال مهيمنا على تصورات الرئيس السيسي وانشغاله به لا يقل أهمية عن البعد الخارجي، وربما يضفي حيوية في أجندته المعلنة
كان يمكن أن يكون الموقف الحاسم من رفض التوطين في سيناء مادة دعائية خصبة، لأن السيسي تبنى مواقف صارمة في هذا السياق، ولم يخضع لابتزازات سياسية أو ضغوط اقتصادية أو يلين مع المشاهد الإنسانية التي استخدمتها إسرائيل لحث الغزّيين على الاستنفار ضد مصر وأن معبر رفح لا يلبّي حاجات المواطنين في القطاع.
استفاد من الإجراءات الأمنية التي قامت بها الدولة في سيناء ولم يتاجر بها سياسيا، وربما لم يعرف الكثيرون أهمية إعادة هيكلة البنية التحتية في سيناء إلا مع اندلاع الحرب على غزة، وحتى هذه لم تحظ بالاهتمام الكافي وتبرز الدور الذي لعبه الفترة الماضية في حماية الأمن القومي من التهديدات المباشرة القادمة من الشمال الشرقي.
كان يمكن أن يستفيد من عملية حماية الأمن المعقدة مع السودان بعد اندلاع الحرب فيه، ووضع الكثير من المصالح المصرية على المحك، وتجنب التورط في حرب يمكن أن تسبب متاعب عميقة للدولة، وسعى إلى حماية مصالح بلاده بأدوات مختلفة، مقتنعا أن أيّ تدخل خارجي للجيش المصري لن تكون عواقبه إيجابية، وفقا لقناعة بوجود تربص من جانب جهات إقليمية ودولية لن تمكنه من الخروج بسهولة.
أعاد الموقف العسكري المصري من غزة والسودان، وسبقتهما ليبيا، ضبط مفصل الأمن بقوة، حيث لوّحت القاهرة بالحسم إذا اقتضت الضرورة الأمنية في ليبيا، وحرصت على حماية المصالح بطرق سياسية، مع إظهار مواقف حدية واضحة تؤكد أن الخيارات العسكرية غير مستبعدة بالمرة مع أيّ من التهديدات الخارجية الحرجة.
كان يمكن أن يلجأ السيسي إلى توظيف لغة القوة التي تطرب المصريين وغيرهم من الشعوب العربية، لكنه آثر الابتعاد عنها في حملته الانتخابية، وعدم الاستفادة منها كثيرا في لفت انتباه الناس إليه والهروب من الدخول في استحقاقات اقتصادية متشعبة يتطلب إنجازها وقتا طويلا وتضحيات كبيرة وربما مساءلات سياسية مزعجة.
يجهض التركيز على قضايا ما دون الأمنية، أي اقتصادية واجتماعية وسياسية، ما روّجته قوى معارضة سابقا بأن نظام السيسي تاجر بالحرب على الإرهاب خلال فترتيه السابقتين، ووفقا لهذا المنهج كان من السهل العزف على الوتر الأمني بكل ما ينطوي عليه من تداخلات داخلية وخارجية، وهو وتر أشد جاذبية من وتر الإخوان والمتطرفين والإرهاب، ويجلب تعاطفا كبيرا وتفاعلا واسعا بأقل مجهود ممكن.
كان يمكن تجنب الاهتمام بطريق القضايا المدنية بكل ما تحمله من مضايقات، ومنح أولوية ما يجري في غزة وما سوف تفضي إليه تطوراتها على مصر والمنطقة، والاستغراق في تقديرات وتكهنات تكفي لإبعاد المواطنين عن ملفات اقتصادية يحتاج تجاوزها جهدا مضنيا وتحركات على مستويات متباينة، وحسابات جزء كبير منها لا تملك مصر مفاتيحه، ما يجعلها مؤلمة لمرشح يعلم أن شعبه لن تكفيه إنجازات طفيفة.
أعاد الكثيرون النظر في رؤيتهم حيال السيسي عندما لم تتاجر حملته الانتخابية بالملف الأمني وتسلط الضوء فقط على الكثير من القدرات التي تمتلكها المؤسسة العسكرية، ووجدوا الاستغراق في قضايا مدنية بعدا صادقا في التعامل بجدية مع المشكلات الحياتية التي تواجهها الدولة والبحث عن حلول عملية لها خلال الفترة المقبلة.
◙ الرئيس المصري اختار في دعايته طريقا يصعب تحقيق نتائج ملموسة فيه، وأهمل الملف الأمني الذي حقق فيه طفرات عملية على مدار السنوات التسع الماضية
تطفو التحديات الأمنية في مصر ولا تسبب قلقا لدى شريحة من المصريين لثقتهم في جيش بلدهم وجاهزيته في التعامل مع التطورات المفاجئة، بينما التحديات المعيشية مستمرة، ولم تشهد غالبية السكان انتعاشات ملموسة، لكن يكفي هؤلاء أن يجدوا أملا يعلقون عليه أحلامهم، وهو ما يفعله السيسي، فالأزمات الاقتصادية التي تواجهها الدولة لم تمنع توفير الأمل وتحقيقه على مدار سنوات ست للفترة الرئاسية الثالثة.
كان يمكن الاستغراق في تفاصيل المشهد الإقليمي وتعقيداته، ولفت الأنظار بعيدا عن الأزمات الداخلية وهي حجة يلجأ إليها الكثير من القادة، استنادا إلى قاعدة إذا أردت أن توحد شعبا فأوجد عدوا خارجيا، وما أكثر هؤلاء بالنسبة إلى مصر حاليا، غير أن عواقب هذا الاتجاه سوف تظهر مستقبلا في شكل انهيار داخلي، خاصة إذا كان العدو مفتعلا أو يمكن تجنب عداوته.
لا يزال البعد الداخلي مهيمنا على تصورات الرئيس السيسي وانشغاله به لا يقل أهمية عن البعد الخارجي، وربما يضفي حيوية في أجندته المعلنة، حيث كررا دائما أن تماسك الشعب ووحدته خلفه وصموده من العوامل المهمة التي تمنحه قوة وقدرة على مواجهة التحديات الخارجية، ما يفسر أسباب عدم تجاهل المكونات المحلية في الأزمات المصرية، فأول عوامل تجاوزها مواجهتها وعدم الهروب منها إلى أخرى خارجية وإن كانت حقيقية وواقعا ملموسا.
يعد العدوان الإسرائيلي على غزة سردية جاهزة ومريحة يستطيع السيسي من خلالها أن يعبر الانتخابات الرئاسية بلا عوائق، لكن لم تأخذ نصيبها من الاهتمام لأنها حرب لم تسع لها مصر ولا تريد التورط أو الاستثمار فيها، إذ اندلعت لأسباب معينة لدى أطرافها المباشرة، وعلى القاهرة تحاشي رذاذها، لأنها سوف تتوقف يوما ما وتبقى الأزمات الداخلية على حالها.