تراجع تدين الشباب يتجاوز تأثيره السياسة إلى نمط الحياة

تؤكد الدراسات الحديثة تراجع نسبة التديّن لدى الشباب العرب في مختلف أنحاء المنطقة، ما يعني تحولات ثقافية أشمل في المجتمعات العربية مثل تمكين المرأة وتقبل اختلافات الأشخاص وهوياتهم العرقية والجنسية والدينية، إلى جانب تراجع مكانة الأحزاب الدينية.
تونس – بنوع من الشك والريبة تنظر إيمان إلى مسألة التدين لدى المجتمعات العربية، معتبرة أنها ليست بالبساطة التي تبدو عليها، إذ تختلط العادات والتقاليد بالمعتقدات الدينية كثيرا، وما يبدو في ظاهر الأمر أنه التزام ديني من قبل البعض هو في حقيقة الأمر ممارسات متوارثة مألوفة لا علاقة لها بالتعاليم الدينية.
وتنتمي إيمان إلى عائلة تونسية محافظة تعتبر التدين من المسائل الأساسية التي لا تقبل النقاش، وتقول إن “المسلّمات التي لا تقبل النقاش في ما يتعلق بي لدى العائلة تختلف بالنسبة إلى شقيقي، والقائمة طويلة إذا ما خضنا في التفاصيل اليومية، وهو أمر ينطبق على المجتمع بأكمله، لذلك لا أخذ الأمر على محمل الجدية وأبتعد عن الجدال في هذا الموضوع مع العائلة، لكنني أعيش وفقا لقناعاتي”.
وقناعات إيمان تضعها في موقع متوسط من التدين، بحسب ما تقول، فهي تخضع الأمور للعقل والمنطق وتتمسك بالحرية الشخصية في الحكم على القضايا الجدلية، دون أن تكون محسوبة على المتدينين أو اللادينيين بأطيافهم كافة.
وتخرج إيمان من إطار العائلة ومحيط المكان الذي عاشت فيه، إلى فضاء أوسع لتتحدث عن الخديعة السياسية باسم الدين التي تمارسها الأحزاب والعديد من الزعماء السياسيين، وترى أنها أحد الأسباب التي دفعت الشباب إلى إعادة النظر في المنظومة الاجتماعية الدينية وارتباطها بالسياسة لتحقيق مصالح ضيقة ليس أكثر.
وقد تبدو الأحزاب الدينية إضافة إلى السياسيين الذين يقودون عالم ما بعد الربيع العربي من أكثر المتضررين من تراجع التدين لدى الشباب العربي، لكن دراسات حديثة تؤكد أن التغيير الذي يحصل الآن أعمق وقد يغير طبيعة تعاطي المجتمعات مع الشأن الديني بشكل جوهري.
وفي أواخر عام 2019، أصدرت الشبكة البحثية “الباروميتر العربي” نتائج استطلاعات الرأي التي أجرتها، والتي أظهرت انحسارا في التدين والثقة بالأحزاب الدينية في شتى أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وحقيقة أن الشباب أقل تديّنا لم تكن مثيرة للدهشة بالنسبة للباحثين، إذ أنها شيء تشهده أغلب مناطق العالم الأخرى. ففي تونس اعتبر الشباب بنسبة 47 في المئة أنهم غير متدينين، وهي نسبة قريبة من مثيلتها في الولايات المتحدة الأميركية (46 في المئة).
التقاليد والأعراف بغض النظر عن مستوى التدين تحكم بدرجة كبيرة وجهة نظر الشباب تجاه قضايا كالمثلية وتمكين المرأة
وعلى ضوء هذا التوجه، من الصعب الاعتقاد بأن المجتمع التونسي لن يستمر في التحول نحو العلمانية خلال السنوات المقبلة. وأدركت حركة النهضة أن هذا الأمر لا مفر من التعامل معه، فأعلنت رسميا عام 2016 أنها لم تعد حزبا دينيا، من أجل الحفاظ على مستقبلها السياسي.
وفي دول أخرى، يزيد توجه الشباب مقارنة بالأجيال الأكبر، للابتعاد عن التديّن، ما يعني استمرار التحول التدريجي بعيدا عن الدين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خلال السنوات المقبلة.
ويرى مايكل روبنز، مدير الباروميتر العربي، أن هناك تباينا في نسب وصف الأفراد لأنفسهم بالمتدينين، وتزيد نسب القول بعدم التدين في شمال أفريقيا مقارنة بالشرق الأوسط. ما يرجع السبب إلى وجود روابط أقوى، لاسيما تاريخيا، بالدول الأوروبية.
وحاليا أقل من نصف الشباب التونسي بقليل يصفون أنفسهم بأنهم غير متدينين، وهي نسبة مختلفة عن مثيلاتها في جميع أنحاء المنطقة. ويقول روبنز إن هذا يعود إلى التأثير الثقافي الفرنسي الكبير في تونس هو على الأرجح سبب كبير وراء هذا التطور. وبالمثل، في الجزائر -بدرجة أقل- تأثير الثقافة والإعلام الفرنسيين، ويُرجح أن هذا التأثير أدى إلى تراجع مستويات التدين مقارنة بدول المنطقة الأخرى.
وفي الوقت نفسه، فإن قائد الجيش المشير خليفة حفتر صاحب الرؤية العلمانية لليبيا، يتماشى مع تراجع مستويات التدين إلى حد بعيد في ليبيا على مدار السنوات الأخيرة.
هذه التأثيرات ليست منتشرة بقوة في سائر أجزاء الشرق الأوسط الأخرى، لاسيما في الدول الأكثر انقساما في الهوية الطائفية مثل العراق أو لبنان، حيث يبقى الدين مركزيا في التعبير عن الهوية، وهو أقل عرضة للتأثر بالتوجهات الاجتماعية الأشمل. ومن ثم يبدو أن هناك تباينا في التوجهات بين شمال أفريقيا والكثير من مناطق الشرق الأوسط.
تباين كبير
ويرى المختصون في مجال الاجتماع أن التجانس في علاقة السكان بالدين في شمال أفريقيا والتباين الكبير في علاقة السكان بالدين في الشرق الأوسط، لهما أهمية كبرى في تفسير بعض التوجهات الجديدة إزاء الإسلام في المنطقة عموما.
ففي شتى أنحاء شمال أفريقيا، هناك اختلافات قليلة نسبيا في الدين، تزيد من وضوح الهوية الدينية ووحدتها. وفي حين تعد الاختلافات العرقية هي السمات المميزة الأساسية لا الانتماءات الطائفية.
وفي دول مثل العراق ولبنان، يعزز النظام السياسي من الهويات الدينية، ويؤدي هذا التمايز بين عدة طوائف دينية هناك إلى بروز الدين في الحياة العامة. ونتيجة لذلك، فإن مستويات التدين التي يعبر عنها الأفراد يُرجح أن تبقى مستقرة في الشرق الأوسط، مقارنة بمستوياتها في شمال أفريقيا.
ويؤثر تراجع التدين على معتقدات أخرى مثل المثلية الجنسية ودور المرأة في المجتمع وتسلمها المناصب أو منحها المزيد من الحرية الاجتماعية واتخاذ قرارات مصيرية، إذ أن جميع هذه القضايا لا يزال الناس ينظرون إليها عبر عدسة الدين.
ما يقارب نصف الشباب التونسي يصفون أنفسهم بأنهم غير متدينين، وهي نسبة مختلفة عن مثيلاتها في جميع أنحاء المنطقة
ويقول روبنز إن الوقت مبكر للقول إن تراجع مستوى التدين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيكون له أثر مباشر على تلك القضايا الاجتماعية. فمثلا تقبل المثلية الجنسية لا يزال منخفضا في شتى أنحاء المنطقة، في أوساط المتدينين وغير المتدينين على السواء. فالتقاليد والأعراف الثقافية القائمة، بغض النظر عن مستوى التدين، تحكم بدرجة كبيرة وجهة نظر الشباب تجاه هذه القضية.
وتتباين درجة تقبل المثلية الجنسية في البلدان العربية المختلفة، ولكنها منخفضة أو منخفضة جدا في عموم المنطقة. ففي صفوف فلسطينيي الضفة الغربية، قال 5 في المئة فقط إنه من المقبول أن يكون المرء مثليا، وحتى في لبنان، المعروف بأنه أكثر تحررا من الناحية الاجتماعية من سواه، لا يتقبل المثلية الجنسية إلا 6 في المئة من السكان.
وفي ما يتعلق بالقضايا المتصلة بحقوق وأدوار النساء في أنحاء المنطقة، تزيد نسبة الشباب غير المتدينين الذين يؤيّدون إلى حد ما أن تلعب النساء نفس الأدوار، على قدم المساواة مع الرجال في المجتمع. لكن الاختلاف في آراء المتدينين وغير المتدينين في هذه القضية ليس كبيرا. وعلى سبيل المثال، في أوساط المتدينين، يقول 63 في المئة بضرورة أن يكون
للزوج القرار الأخير في الشؤون الأسرية، مقارنة بـ56 في المئة من غير المتدينين. أي أن تراجع مستوى التدين لا يُترجم مباشرة إلى اختلاف كبير في الآراء حول النساء. إنما يتطلب تعزيز المساواة بين الرجال والنساء أيضا تحولات ثقافية أشمل حول مكانة المرأة في المجتمع.
حقوق المرأة
خرج استطلاع “الباروميتر العربي” بصورة متناقضة في ما يخص مساواة المرأة، ففي منطقة غير معروفة بتقبلها لمبدأ تمكين المرأة، بيّن الاستطلاع وجود تقبل واسع لفكرة تولي المرأة مواقع قيادية.
ويساند معظم المشاركين في الاستطلاع في عموم المنطقة حق المرأة في أن تصبح رئيسة للحكومة أو رئيسة للجمهورية في بلد إسلامي. وقال ثلاثة أرباع المشاركين في لبنان إنه ينبغي أن تتمتع المرأة بهذا الحق، ولم تشذ عن القاعدة إلا الجزائر، التي قال أقل من نصف عدد المشاركين فيها إنهم يؤيدون حق المرأة في أن تصبح رئيسة للدولة.
ولكن الأمر يختلف عندما يتعلق بتوازنات القوى في الحياة اليومية، إذ أن أغلبية المشاركين، بما في ذلك معظم النساء، يعتقدون أنه ينبغي للزوج أن يكون له القول الفصل في القرارات الأسرية.
وتؤمن ثلاثة أرباع السودانيات بذلك، أما لبنان، فقد شهد زيادة طفيفة في نسبة النساء اللواتي يعتنقن هذا الرأي منذ عام 2017، وتبيّن أن المغرب هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يرى أقل من نصف سكانه أنه من حق الزوج أن يكون له القول الفصل في المنزل. وفي ما يتعلق بالقتل “غسلا للعار”، أظهر الاستطلاع نتائج لا تخلو من غرابة. ففي الجزائر على سبيل المثال، وهو البلد العربي الأول من ناحية تقبل المثلية الجنسية هو أيضا البلد الأكثر تقبلا للقتل “غسلا للعار”.
تربط الدراسة تراجع ظاهرة التدين في عدد من المجتمعات العربية بشكل عام، وتراجعها بين الشباب بشكل خاص، بعاملين بارزين. الأول تراجع الثقة في القادة الدينيين في أغلب المجتمعات التي شملتها الدراسة بنسبة نحو9 في المئة. والثاني تراجع الثقة في الحركات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين وحزب الله، حسبما تقول.
ويلاحظ في هذا السياق أن الانتكاسة التي منيت بها بعض الأحزاب والحركات الإسلامية بعد وصولها للحكم عقب موجة الربيع العربي عام 2011 قد أثرت بشكل واضح على ثقة الشباب بها، هذا على الرغم من صعود شعبيتها في بداية الأمر.
وبذلك لم يعد شباب الشرق الأوسط يتأثر بالخطاب الديني أو توجيهات رجال الدين في الشؤون السياسية كما في السابق. إذ تم تسجيل زيادة حالة وعي تدفع إلى التمرد وتجاوز الخلافات من أجل العيش الجماعي المشترك دون تفرقة بين مكونات المجتمعات.
ويمهّد التراجع في نسبة العصبية الدينية في أغلب الدول العربية إلى تعزز مؤشرات التسامح وتجاوز الخلافات الطائفية والعرقية والجهوية والبحث عن حلول للعيش المشترك دون تمييز أو تفرقة وتتعزز فيها التيارات القومية الوطنية التي تؤمن ببناء الوطن بالتعويل على القدرات المحلية وبعيدا عن التأثيرات الخارجية والتبعية لجهات معينة. حيث باتت هناك شريحة من الشباب تبحث عن استقلالية القرار ورفض الإملاءات الخارجية وتمكين الشعب من اختيار من يحكمه.