تراجع الطلب على النفط ما عاد دوريا.. هناك تغيرات جذرية وعميقة

تسلط الأحداث الجارية في قطاع الطاقة، والذي جسدته بوضوح الأرباح المتراجعة لأرامكو السعودية إحدى أكبر شركات النفط في العالم، وذلك للعام الثاني على التوالي، الضوء على حالة عدم اليقين المسيطر على المراقبين والخبراء بشأن المدى الذي يصبح فيه تراجع الطلب على النفط هيكليا وليس دوريا، مما يعني أن ثمة خللا سيطرأ على السوق عاجلا أم آجلا وقد يربك هذا النشاط على نحو غير متوقع.
لندن - لم تكن أرامكو عملاق النفط السعودي بعيدة عن تداعيات الأزمة الصحية التي ضغطت على الطلب العالمي بشكل أكبر منذ تفشي فايروس كورونا، قياسا بما كانت عليه الأوضاع في سوق الطاقة خلال السنوات السابقة، حيث ظهر ذلك واضحا من البيانات الرسمية، التي تم الكشف عنها بداية هذا الأسبوع.
وأعلنت الشركة، التي أدخلت تغييرات على هيكلة مجلس الإدارة قبل عدة أيام، عن تحقيق الشركة أرباحا قدرها 49 مليار دولار بنهاية العام الماضي، والتي وصفتها بأنها "واحدة من أكثر السنوات تحديا في التاريخ الحديث".
وعلى الرغم من هذا الانخفاض بنسبة 44 في المئة في الأرباح على أساس سنوي، فإن الشركة ستفي بالتزامها بدفع 75 مليار دولار أرباحا للمساهمين، سيذهب معظمها إلى خزائن الدولة، لكن يبدو أن شركة النفط السعودية ستدفع ثمنا مقابل ذلك.
وهذا التراجع هو الثاني على التوالي، حيث تقلصت أرباح أرامكو في 2019 بنسبة 20.6 في المئة، قبل اندلاع معركة الأسعار وتراجعها الحاد بعد انهيار اتفاق خفض الإنتاج في إطار تحالف أوبك+.
ما تأثيرات ذلك

أليستر نيوتن: الوقت فقط كفيل بإثبات ما إذا كان تراجع الطلب بات أمرا هيكليا
لخص المحلل السياسي أليستر نيوتن، الذي أمضى عشرين عاما في السلك الدبلوماسي البريطاني، في تحليل نشرته مؤسسة “عرب داجست” الاستشارية آثار تراجع الأرباح على نشاط الشركة مستقبلا في ثلاثة عوامل رئيسية.
أولا تخفيض النفقات الرأسمالية بمقدار 6 مليارات دولار عن العام الماضي، ما يعني إنفاقا أقل بكثير عن الإنفاق المخطط لهذا العام؛ ثانيا زيادة نسبة الدين لأكثر من الضعف ليصل إلى 55 في المئة على أساس سنوي؛ ثالثا خفض بنسبة 30 في المئة في إجمالي الأموال المدفوعة للخزينة السعودية، على الرغم من العاملين الأول والثاني.
ومع ذلك، وكما قال أنجلي رافال في صحيفة “فاينانشيال تايمز” بعد أن أصدرت أرامكو نتائجها مباشرة، فإن الشركة “كانت تتمتع بالمرونة بشكل أكبر من نظيراتها الدولية”.
وأضاف إنه “على عكس ما رأيناه من أوبك قبل 12 شهرا، سيساعد قرار المنظمة في الرابع من مارس 2021 بالإبقاء على سريان الأمور في أرامكو إلى حد كبير بشكل طبيعي حتى تخفيضات الإنتاج في مايو المقبل المتفق عليها خلال انخفاض الأسعار في العام الماضي”. ومع ذلك، يبقى انتظار مقدار المساعدة وتأثيرها سيد الموقف.
ولقد كانت النتيجة المباشرة لقرار أرامكو مطلع هذا الشهر هي تعزيز الارتفاع في أسعار النفط، الذي تم تسجيله منذ قرار أوبك+ في الثالث من ديسمبر الماضي لزيادة الإنتاج بشكل تدريجي.
وكان هذا القرار وسياسة ضبط النفس، التي تم اتباعها في وقت سابق هذا الشهر بناء على إصرار الرياض إلى حد كبير، ونتج هذا القرار الحكيم عن بعض الأحداث التي جدت منذ ديسمبر 2020.
ويقول نيوتن إن تلك السياسة أدت إلى أمرين اثنين، الأول استمرار الارتفاع في أسعار النفط، الذي كان لا يزال مؤقتا في أواخر 2020، مع ارتفاع سعر خام برنت من 48 دولارا في أوائل ديسمبر إلى 70 دولارا للبرميل وذلك للمرة الأولى منذ منتصف مارس 2019، مدفوعا بشكل جزئي بهجمات جماعة الحوثي المدعومة من إيران على السعودية.
أما الثاني، فإن الصعود القوي، الذي حدث الأسبوع الماضي على ما يبدو، توقف وانعكس بشكل جزئي، مع تراجع خام برنت بنسبة 7 في المئة تقريبا إلى 64.5 دولار وهو أكبر انخفاض أسبوعي له منذ أكتوبر الماضي، بفضل ضعف الطلب.
التفاؤل لن يدوم

لا تزال توقعات شركات وول ستريت متفائلة، فمؤسسة غولدمان ساكس، على سبيل المثال، ملتزمة بتوقعاتها بارتفاع سعر خام برنت إلى 80 دولارا خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وذلك لدفع منظمة أوبك+ للاتفاق في أغسطس على زيادة الإنتاج بمقدار 2.8 مليون برميل يوميا.
كما تتوقع شركتا جي.أس وجي.بي مورغان تشيز أن المحفزات المالية ستعمل على رفع سعر النفط فوق 100 دولار في العام المقبل إن لم يكن بحلول أواخر هذا العام، وهو مستوى غير مسبوق منذ عام 2014 حينما ارتفعت الأسعار بشكل قياسي قبل أن تعود إلى الانهيار لتصل في بعض الفترات إلى 23 دولارا.
وتصر وكالة الطاقة الدولية على أن الجائحة عملت على توفير طاقة فائضة أكثر من كافية يمكن استغلالها بسهولة، أي حوالي 9.3 مليون برميل يوميا، مع وجود مخزونات نفطية عالمية لإبقاء الأسعار تحت السيطرة ليس فقط حتى عام 2021، ولكن بعد ذلك وحتى عام 2023.

ويل فانلوه: السنوات الخمس المقبلة أفضل فترة للاستثمار في النفط
وقالت الوكالة في تقرير سابق إنه “يتم العمل على فائض المخزون الكبير، الذي تراكم العام الماضي وستعود مخزونات النفط العالمية، باستثناء الاحتياطيات الاستراتيجية، إلى مستويات ما قبل الوباء في عام 2021. ومع ذلك، قد لا تكون هناك عودة إلى الوضع الطبيعي لسوق النفط في حقبة ما بعد كوفيد – 19”.
ويعتقد المحلل البريطاني نيوتن أن هذا لا يعني أن وكالة الطاقة الدولية تنحاز إلى أولئك، الذين يعتقدون أن العالم الآن يعيش عصر ذروة الطلب، لكنها تقر بالفعل “باحتمال بلوغ ذروة في وقت أقرب مما كان متوقعا في السابق إذا اتبعت الحكومات سياسات قوية لتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة”.
ونتيجة لذلك، لا يُتوقع الآن سوى زيادة متواضعة في الطلب العالمي، الذي يبلغ 4.4 مليون برميل يوميا مقارنة بمستويات ما قبل الجائحة، إلى 104.1 مليون برميل يوميا فقط بحلول عام 2026.
وكما تشير وكالة الطاقة الدولية، فإن هذا “سيوجد معضلة للدول المنتجة للنفط والشركات التي تحجم عن ترك الموارد الموجودة في الأرض أو بناء قدرات جديدة يمكن أن تصبح عاطلة عن العمل”.
وهذه المعضلة لا تقتصر على دول وشركات أوبك+، ولكن أيضا ستطال البعض الآخر مثل الولايات المتحدة، حيث الآراء حول النفط الصخري منقسمة تماما كما هو الحال بالنسبة لإنتاج النفط في جميع المجالات.
وكتب جاستن جاكوبس وديريك بروير في صحيفة “فايننشال تايمز” منتصف هذا الشهر يقول إن وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، قال في الرابع من مارس الجاري إن “قطاع النفط الأميركي المنهك لم يعد في وضع يسمح له بتدمير جهوده للحفاظ على ارتفاع الأسعار من خلال الحفر من جديد”.
معضلة جماعية

مع ذلك، ومن خلال الحكم من تقرير جديد لبروير نشر قبل أيام، فإن وجهة النظر هذه لا يشاركها بعض أولئك الذين يعملون بالفعل في القطاع، والذين يتوقعون حدوث طفرة أخرى بناء على الاعتقاد بأن “تخفيضات إنتاج أوبك، والائتمان الرخيص، والإنفاق الحكومي المحفز، وتحول سوق الأسهم بعيدا عن أسهم التكنولوجيا إلى شركات ‘الاقتصاد القديم’ كلها عوامل توفر مساعدة لمنتجي النفط”.
واقتبس بروير تصريحا لأحد أكبر المستثمرين في القطاع، وهو ويل فانلوه من شركة كوانتم إنرجي بارتنرز، والذي قال فيه “قد تكون السنوات الخمس المقبلة أفضل خمس سنوات لدينا على الإطلاق للاستثمار في الهيدروكربونات”.
وقد لا تتعارض مواقف فانلوه في حد ذاته مع وجهة نظر الأمير عبدالعزيز. وكما يقول بروير يبدو أن منتجي النفط الصخري الباقين والأكثر إصرارا واجتهادا سيكونون على الأقل أكثر تركيزا إلى حد ما على عائد الاستثمار بدلا من مجرد زيادة الإنتاج.
وبطريقة أو بأخرى، تعني هذه الأوقات أنه يتعين على المنتجين والمستثمرين استخلاص استنتاجات وشيكة ووضع رهاناتهم وفقا لذلك. ولكن بالنسبة للباقين، فإن جميع أوجه عدم اليقين تؤكد على البقاء، في الوقت الحالي، على حاجز فوق الحد الأدنى، أي إلى الحد الذي انخفض عنده الطلب في العام الماضي وتبيّن أنه تغيّر هيكلي وليس دوريا. وفي ضوء ذلك يؤكد نيوتن أن الوقت فقط كفيل بإثبات ذلك.