"تحرير" بيجي رسائل أميركية وتوهّم ميليشياوي

الجمعة 2015/10/23

أشاع تقهقر تنظيم “داعش” من قضاء بيجي، التابع لمحافظة صلاح الدين العراقية، قدرا كبيرا من التوهّم في الأوساط السياسية الموالية لإيران في العراق، حيث بدأ الحديث عن انهيار “داعش” يأخذ الحيز الأكبر في الإعلام الحزبي العراقي، على وقع التقدمات الميدانية التي أحرزتها ميليشيات الحشد الشعبي والقوات الأمنية العراقية في مركز بيجي والقرى المحيطة به، وصل الأمر إلى حد التبشير بقرب الحسم النهائي مع التنظيم المتطرف، وكان ذلك عبر المتحدث العسكري باسم الحشد الشعبي، كريم نوري، الذي بدا مندهشا في إحدى إطلالاته الإعلامية بتخطي قوات الحشد للأهداف التي رسمها “شيخ المجاهدين” هادي العامري الذي حضر بنفسه، وأشرف على سير المعارك على حد قوله، واضعا الشعب العراقي أمام مشهد انهيار دراماتيكي للتنظيم، لن ينتهي إلا بانتهائه.

وفيما تقوم ميليشيات الحشد بتسويق تقدمها في بيجي، معتبرة إياه إنجازا “وطنيا” خالصا، تمّ دون أي مساعدة من قبل طيران التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، أصدرت السفارة الأميركية في بغداد بيانا أثنت فيه على التقدم الذي حصل، معبّرة عن فخر الولايات المتحدة بالشراكة مع القوات العراقية والحشد الشعبي في صنع هذا الإنجاز، عبر تنفيذ طيران التحالف 14 ضربة جوية في بيجي ومحيطها دعما للعمليات على مدى أسبوع، مدمرا عجلات مفخخة وأبنية يسيطر عليها “داعش” ومخابئ وأكداس أسلحة ومعدات ومواقع قتالية ومناطق تجمع وانطلاق مقاتلي التنظيم، حسب ما ورد في البيان.

ولم يغب عن البيان الأميركي، التنويه بدور الأسلحة والمعدات الأميركية، في حسم المعارك، فضلا عن الطلعات الجوية الاستطلاعية والعملياتية، والتي بلغ عددها 130 طلعة جوية منذ أوائل أغسطس الماضي، في بيجي وما حولها، الأمر الذي لم يخل من رسالة أميركية، للأطراف المشككة بجدية الجهود الأميركية المبذولة لمساعدة القوات العراقية في حربها ضد تنظيم “داعش”.

يُذكّر حدث استعادة بيجي في 20 أكتوبر الجاري، بعد عدة محاولات فاشلة على مدى أكثر من 4 أشهر، من حيث الحيثيات الميدانية والسياسية، بمعارك استعادة مدينة تكريت التي خاضها الحشد الشعبي بإشراف مباشر من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، إلى جانب قوات الجيش الحكومي في مارس الماضي، تحت عنوان “لبيك يا رسول الله”، والتي لم تُحسم إلا بعد استعصاء دام أسابيع على مشارف المدينة، تم حلّه بالتدخل المكثف لطيران التحالف الدولي. تبين بعدها عجز القوات البرية العراقية بكل قوامها الرسمي والميليشياوي، عن إحداث أي تقدم ميداني، دون إسناد جوي أميركي، رغم ما تم استقدامه حينها من قوات وخبرات إيرانية مباشرة، بعضها في الجو عبر الطيران الاستطلاعي الإيراني، الذي ثبت عدم قدرته على التصدي لمهام نظيره الأميركي استطلاعيا وعملاتيا.

يأتي “إنجاز” بيجي الأخير، ليعيد صياغة الرسالة الأميركية للحكومة العراقية ميدانيا، بذات جوهرها السياسي، لتقول مجددا وبكل وضوح، لا تقدم ميدانيا ضد “داعش” بمعزل عن التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، ولا نفع لأي تحالفات إقليمية ودولية تشتهي القوى الميليشياوية المهيمنة في العراق، إقامتها كبديل عن الإطار الإستراتيجي المتين الذي يجمع العراق بالولايات المتحدة الأميركية، والمثبت بمعاهدات وتشابكات ذات طابع اقتصادي وعسكري بين البلدين.

ويُسند الأميركيون رسالتهم بثقة شبه مطلقة، بعدم قدرة الروس والإيرانيين القيام بالمهام الأميركية، دون امتلاكهم الأدوات العسكرية والاستخباراتية التي يمتلكونها هم على الساحة العراقية، والتي يتحكمون من خلالها بالمجريات الميدانية، وهو ما ظهر في بيجي، وأول أمس في تكريت.

ويفتح ذلك على مجمل التساؤلات التي يستند إليها معسكر الموالين لإيران والتدخل الروسي، حول عدم تقديم الولايات المتحدة الإسناد اللازم لتغيير الوقائع على الأرض وإلحاق الهزيمة النهائية بتنظيم “داعش” في عموم العراق، وهي التي بدأت عملياتها منذ سبتمبر 2014 مع أكثر من 40 دولة منضوية في إطار تحالف دولي من أجل القضاء على التنظيم.

تساؤلات لا تخلو من إجابات ضمنية، يردفها المتسائلون في سياق طرحها، مفادها رغبة الأميركيين استنزاف الحشد الشعبي وإبعاده عن المشهد، وبالتالي حسر الهيمنة الإيرانية على البلاد، وهو الأمر الذي يدفع قادة الميليشيات والقوة السياسية الموالية لإيران إلى استجداء التدخل الروسي كبديل عن الأميركيين، والضغط على الحكومة العراقية من أجل طلب ذلك رسميا من الروس.

لكن ماذا بعد استعادة بيجي، هل يستمر الأميركيون على ذات الوتيرة العملياتية المنتجة ميدانيا؟ هنا لابد من الإشارة إلى أنّ الفعل الأميركي المنتج في العراق ضد تنظيم “داعش”، محكوم بالهواجس الأميركية من التمدد الإيراني، وسبق للأميركيين أن طرحوا رؤيتهم المتكاملة للقضاء على تنظيم “داعش”، ذات العمود الفقري السياسي القائم على عدة فقرات أولها إجراء تعديلات في بنية النظام السياسي العراقي، وإشراك المكون السني بشكل فعّال في مؤسسات الدولة، وإنهاء وجود الميليشيات عبر حلّها، وإدماج عناصرها في المؤسسة العسكرية الرسمية. عرقلة الإيرانيين للمسار السياسي الذي حددته الرؤية الأميركية، جعلت المسار العسكري يتعثّر بعدم رغبة الأميركيين تقديم خدمات عسكرية تتيح للقوى الإيرانية فرض سيطرتها على الأرض.

بالعودة إلى ما تسوّقه ميليشيا الحشد الشعبي، حول تحرير بيجي بالقدرات الذاتية الخالصة، وبداية انهيار تنظيم “داعش” في العراق، فإن الأمر لا يعدو عن كونه محاولة لاستخدام الدعم الجوي الأميركي في بيجي، وإنكاره في نفس الوقت لأهداف دعائية والتفافية، عبر استثمار التقدم في بيجي لتعزيز تمركزات ميدانية، والمراكمة على الإنجاز المعنوي الدعائي بغية تحقيق تقدمات جديدة. وذلك لا يغيب بالطبع عن أذهان الأميركيين. من هنا يمكن القول إن استعادة الحشد الشعبي لبيجي، لن تكون أفضل مآلا من استعادتهم لتكريت، حيث خسروا بعدها مدينة كبرى كالرمادي، فضلا عن تاريخ من التقدم والتقهقر حتى على أرض بيجي ذاتها مرات عديدة. فالأميركيون بعثوا برسالتهم بكل وضوح: لا تقدم ميدانيا دون دعمنا، ولا قدرة لكم على الإمساك بالأرض طويلا دون إعادة هيكلة القوات العراقية وإشراك المكون السنّي فيها، وهو ما أثبتته وقائع الأمس القريب، ولا تنسيق فعّالا وحاسما بمعزل عن تنفيذ مجمل الرؤية الأميركية الشاملة والمعلنة، ولا نفع للتوهم بالقدرات الذاتية، واستجلاب الروس.

كاتب عراقي

8