تجديد حقيقي لدماء الأحزاب المصرية

الكيانات المعلبة يصعب أن تقوم بنشاط مقنع يؤدي إلى نتائج مختلفة عن تلك التي تم الحصول عليها في وقت سابق ما يعني أن القفزة الحالية في المشهد الحزبي ستفضي إلى المصير نفسه.
الثلاثاء 2024/12/24
الحصيلة السياسية لا تتناسب مع هذا الميراث الطويل

تجري في مصر تحركات حثيثة من أجل تجديد دماء الأحزاب السياسية، وهو اعتراف بفشل القوى الحالية في تحريك المياه بالصورة التي تؤكد أن هناك حياة حزبية حقيقية، وشرعت جهات قريبة من السلطة في تشكيل حزب جديد تحت اسم “اتحاد مصر الوطني”، استعدادا لانتخابات البرلمان المقبلة بعد نحو ستة أشهر، وليلعب الدور الذي قام به حزب “مستقبل وطن” في الانتخابات الماضية، ويصبح ظهيرا سياسيا للحكومة.

وهي إشارة على أن “مستقبل وطن” أخفق في أداء مهامه، وأن السلطة كرهت الوجوه التي لاحقتها اتهامات بالفساد، وتسترت برداء حزب يعلم الجميع أنه كان قريبا منها.

اللافت أن هناك حركة موازية لتشكيل أحزاب ترتدي ثوب المعارضة، قد تمنحها الدولة تصريحا قانونيا قريبا، لأن الأحزاب الراهنة التي تبنت أو زعمت أنها تتبنى مواقف معارضة لم تستطع القيام بهذا الدور، ففي مصر نحو ثمانين حزبا، الكثير من الناس يعجزون عن معرفتها أو ذكر عدد يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة منها.

◄ ما لم تستمد الأحزاب، الجديدة والقديمة، وجودها من الشارع لن تتمكن من الحصول على تواجد ملموس، لأن الكتل الجاهزة التي تنطلق من قواعد قبلية ومناطقية لن تمكن قياداتها من الانتشار خارج نطاقها الجغرافي

وتبدو هذه المسألة علامة كافية على شيخوختها المبكرة، وعدم شعور شريحة كبيرة من المواطنين بوجودها، سواء من عارض السلطة شكلا أو مضمونا، فكلاهما احتفظ بعلاقات جيدة مع السلطة، بدرجات مختلفة، ما أفرغ الحياة السياسية من أحد مكوناتها الرئيسية، وهي القدرة على إحداث زخم في الشارع، وحراك يحرج الحكومة ويدفعها إلى تصويب سياساتها وإعادة ترتيب أولوياتها.

عرفت مصر الحياة البرلمانية والأحزاب منذ أكثر من قرن، غير أن الحصيلة السياسية لا تتناسب مع هذا الميراث الطويل، وعلى العكس توجد أحزاب تعمل بطريقة بدائية، ويخشى عدد محدود منها سيف المعز، وأحيانا يغريه ذهبه، حيث ظهر في آخر انتخابات برلمانية ورئاسية نوع من تقسيم الأدوار بين السلطة والأحزاب التي قبلت التفاهم معها على أرضية المعارضة، لأنها تعلم أن الفضاء العام لا يسمح بحرية الحركة، فتضييق الخناق المفروض عليها لن يمكنها من الوصول إلى الشارع.

ناهيك عن تآكل هياكلها الحزبية وكثافة الخلافات الداخلية التي قضت تقريبا على حزب تاريخي مثل الوفد الليبرالي، فتحول أثرا بعد عين، ونخرت في جدرانه تباينات لم تمكنه من اختيار قيادات واعية لأهميته، وقيمته الرمزية في مصر.

وأدى يقين السلطة بأن الأحزاب المحسوبة عليها والمعارضة لها ضعيفة، إلى حد الشعور بالخطر منهما، ما حثها للعمل على توفير أجواء لتغيير جلديهما، فأوحت لرجال أعمال وسياسيين ومسؤولين سابقين قريبين منها إلى تشكيل حزب اتحاد مصر الوطني، وألمحت لبعض شباب ثورة يناير ممن تتواءم أفكارهم معها للسعي نحو تشكيل حزبين جديدين يقفان في صف المعارضة.

عرفت مصر الطريقة الفوقية في تأسيس الأحزاب منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، حيث اختار بنفسه في منتصف السبعينات من القرن الماضي حزبه الحاكم (حزب مصر، تطور لاحقا إلى الحزب الوطني) ومعارضيه من خلال ما سمي وقتها بـ”المنابر” التي تعددت بين اليمين واليسار والوسط، ثم أخذت شكل الأحزاب الحديثة، لكنها لم تتطور بشكل كاف على مستوى الممارسة السياسية.

◄ تشكيل أحزاب داعمة للسلطة أو معارضة لها لن تكون له مردودات إيجابية على الحياة السياسية

ولا يزال هذا النوع الفوقي يلقي بظلاله السلبية على مصر حتى الآن، بل ازداد تشوها مع ضيق هامش الحرية المتاح على صعيدي السياسة والإعلام، وجرت قيادات غالبية الأحزاب وراء تحقيق مكاسب شخصية على حساب المصالح العامة المرجوّة منها، فزاد تفسخ الأحزاب، وتحولت إلى ما يشبه الكيانات الورقية أو الكرتونية، فهي بلا حضور في الشارع أو دور سياسي معلوم أو فاعلية في مناكفة السلطة.

ورغم ارتياح السلطة لهذا النمط من التدجين، إلا أنها لم تعد مقتنعة به، لأنه يسيء إليها، حيث تتحكم في مفاتيح القرار ويقع على عاتقها جزء كبير من اللوم عند الحديث عن خمول الأحزاب وضعف الحياة السياسية في برّ مصر، إذ اعتادت الأحزاب أن تستمد قوتها من درجة الحركة التي تسمح بها الدولة لها، زيادة أو نقصانا.

شهدت السنوات الماضية نقصانا في التفاعلات السياسية الإيجابية بعد أن شهدت فورانا حزبيا بعد ثورة يناير 2011، وفائضا في الشخصيات والنشطاء المنخرطين في الحراك الذي أعقب هذه الثورة وصولا إلى ثورة يونيو بعد عامين من يناير.

لم يكن هذا الوضع مريحا لنظام الرئيس عبدالفتاح السيسي منذ وصوله إلى السلطة منتصف عام 2014، فحدث تقويض وتآكل في الفضاء السياسي العام، بما حال دون وجود ممارسة حزبية جيدة، تملك من الحرية ما يمكّن المنخرطين فيها من القيام بأدوار فاعلة، وجاءت سنوات مكافحة الإرهاب والخوف من عودة جماعة الإخوان لتمنح السلطة مبررات للتضييق.

◄ هناك حركة موازية لتشكيل أحزاب ترتدي ثوب المعارضة، قد تمنحها الدولة تصريحا قانونيا قريبا، لأن الأحزاب الراهنة التي تبنت أو زعمت أنها تتبنى مواقف معارضة لم تستطع القيام بهذا الدور

وعندما انتهت هذه المرحلة تلكأت بعض الجهات النافذة بالدولة في الأخذ بمقتضيات الإصلاح السياسي والانفتاح الحقيقيين، خشية يقظة العناصر الإسلامية النائمة أو تلك التي أخذت من الكمون وسيلة للانقضاض عندما تكون الفرصة مناسبة.

هذه واحدة من الإشكاليات التي تعرقل تأسيس أحزاب في مصر على قاعدة هيراركية أو هرمية، من أسفل إلى أعلى، مثل كل الدول التي أخذت بنهج الديمقراطية أو حاولت التأسيس لبناء حزبي يوفر مجالا جيدا للتعددية، ما يعني أن تشكيل أحزاب داعمة للسلطة أو معارضة لها لن تكون له مردودات إيجابية على الحياة السياسية.

فالكيانات المعلبة والمعروف بأنها سابقة التجهيز يصعب أن تقوم بنشاط مقنع ومؤثر ويؤدي إلى نتائج جديدة، مختلفة عن تلك التي تم الحصول عليها في وقت سابق، ما يعني أن القفزة الحالية في المشهد الحزبي ستفضي إلى المصير نفسه، الذي ليست له جدوى ملموسة للسلطة أو المعارضة، فكلاهما لن يحقق أهدافه، وسوف تسير الخطوة الجديدة على المنوال ذاته، لأنها أخذت الهواجس ولم تدخل تعديلات تسمح بنزع الفتيل الذي تسبب في الانسداد العام.

يحتاج نزع الفتيل إلى استدارة عملية، توفر قدرا من التنفيس السياسي المحسوب، والتخلي عن اعتقاد خاطئ يرى أن كل خطوة إلى الأمام وتوسيع الحركة في الفضاء العام قد تتلوها خطوة إلى الخلف، في حين أن الرجوع إلى الخلف يمكن أن يحدث دون انفتاح، فالإصرار على التضييق دافع كاف لانفجار الكبت أيضا.

وما لم تستمد الأحزاب، الجديدة والقديمة، وجودها من الشارع لن تتمكن من الحصول على تواجد ملموس، لأن الكتل الجاهزة التي تنطلق من قواعد قبلية ومناطقية لن تمكن قياداتها من الانتشار خارج نطاقها الجغرافي، وعند أول محك يمكن أن تنسحب، لأن العمل السياسي لا يقوم على إغراءات مادية، ويستمد فعاليته من حجم الإغراءات المعنوية، والقدرة على المساهمة في بناء مشروع دولة تنشد التعددية الحقيقية.

8