تجديد جامعة القرويين العريقة.. تجذر في الماضي ونظر إلى المستقبل

ترأس الملك محمد السادس، الثلاثاء 23 مايو الجاري، بخزانة القرويين بفاس، حفل تقديم برنامج تأهيل المدارس العتيقة بالمدينة بعد خضوعها لأشغال الترميم، وافتتاحها لغرضي الإيواء والتعليم في وجه طلبة سلكيْ “العالمية” وفن الخط بجامعة القرويين، وأوضح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق أن هذه المعالم التاريخية تُظهرُ للعالم الغنى المعماري والحضاري الذي خلفه ملوك المغرب.
وأشار المدير العام لوكالة التنمية ورد الاعتبار لمدينة فاس فؤاد السرغيني إلى أن العناية الملكية بفاس العاصمة الأكاديمية والروحية للمغرب وبموروثها، تجسدت من خلال برنامج ترميم ورد الاعتبار لـ27 معلما تاريخيا، من بينها خمس مدارس عتيقة.
يشار إلى أن المغرب كان من بين الدول السباقة إلى المصادقة على اتفاقية التراث العالمي لسنة 1972. وفي هذا الإطار أضاف السرغيني أن “غنى وتنوع الموروث التاريخي للمدينة القديمة لفاس، التي يوجد بها أزيد من 30 ألف صانع تقليدي، مكنا هذه الحاضرة الألفية من أن تكون أول مدينة مغربية تسجل في لائحة التراث العالمي سنة 1981”.
ومن جهتها قالت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) إرينا بوكوفا “بصفتي مديرة عامة لليونسكو، لا يسعني إلا أن أشيد وأعبر عن إعجابي بكل المبادرات التي يطلقها الملك محمد السادس، من أجل الحماية والحفاظ على التراث العالمي”. مسجلة أنه في عهد العاهل المغربي تم ترميم هذه المدارس التي تعود إلى القرنين الـ13 والـ14.
|
وحسب المدير العام لوكالة التنمية فإن ترميم هذه المآثر سيساهم في تعزيز المزارات السياحية على مستوى المدينة القديمة لفاس، والارتقاء بجمالية المشهد العمراني، وتحقيق التنمية السوسيو- اقتصادية لهذه المدينة المتحفية، والحفاظ على موروثها المادي الذي يعكس عظمة ماض معماري تليد وعراقة فريدة في المجالات الثقافية والحضرية والاجتماعية.
وتجددت العناية بالتعليم العتيق بالمغرب حتى يضع حدا لمدارس تخالف المذهب المالكي الرسمي.
وجاء القانون رقم 13.01، لينظم التعليم العتيق ويعمل على تأهيل مدارسه وعيا بأهميته ومدى انتشاره الواسع بين المواطنين، وتمسكهم به وإقبالهم عليه، وتأكيدا لدوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد وسعيا للمحافظة على خصوصياته، فقد أُدرج تطوير التعليم العتيق ضمن مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني وتدبيره.
وأكد الملك محمد السادس بهذا الخصوص بتاريخ 30 أبريل 2004 “الحرص على تأهيل المدارس العتيقة، وصيانة تحفيظ القرآن الكريم من كل استغلال أو انحراف يمس بالهوية المغربية مع توفير مسالك وبرامج التكوين، تدمج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية، وتجنب تخريج الفكر المنغلق، وتشجع الانفتاح على الثقافات”.
وأكد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق أن المدارس العتيقة الست التي كان الملك محمد السادس قد أمر بترميمها ومن ثم إعادة استعمالها في إيواء وتدريس طلبة جامعة القرويين، أصبحت بعد هيكلتها تستجيب لمتطلبات العصر والتكوين الرشيد للعلماء في العلوم الشرعية، إلى جانب بعض المستجدات المتعلقة بالعلوم الإنسانية.
ويهدف التعليم العتيق إلى تمكين التلاميذ والطلبة المستفيدين منه من إتقان حفظ القرآن الكريم، واكتساب العلوم الشرعية، والإلمام بمبادئ العلوم الحديثة، وتنمية معلوماتهم ومعارفهم في مجال الثقافة الإسلامية وضمان تفتحهم على العلوم والثقافات الأخرى في ظل مبادئ وقيم الإسلام السمحة. وشدد الوزير المغربي أحمد التوفيق على “أن خريجي
هذه المدارس العتيقة سيساهمون في منح المناعة للجسم الروحي المغربي ضد كل الآفات التي تتهدد الدين وأهله، لا سيما آفتي التطرف والجهل”.
ويلقن التعليم العتيق بالكتاتيب القرآنية والمدارس العتيقة وبمؤسسات التعليم النهائي العتيق بما فيها جامع القرويين والجوامع الأخرى وفق الأنماط العتيقة، مع مراعاة القوانين والأنظمة المعمول بها في ميدان التربية والتكوين، وطبقا لأحكام هذا القانون والنصوص المتخذة لتطبيقه.
وأكد وزير الأوقاف المغربي أنه وفي إطار الجهود الرامية إلى تمكين جامعة القرويين من استعادة أصالتها في تكوين العلماء، من حيث القوة في التحصيل والتفتح والقدرة على المنافسة العلمية على الصعيدين الوطني والدولي، واعتبارا للأهداف المحددة ضمن الظهير المتعلق بإحداث هذه المؤسسة، تم أيضا إحداث سلك جديد نال الموافقة الملكية، ألا وهو سلك العالمية العليا.
وبخصوص العالمية العليا يتم التحاق فوج بجامعة القرويين عن طريق المباراة كل سنة، يتكون من حملة الباكالوريا الحافظين للقرآن الكريم، يعكفون على التحصيل في نظام دراسي كثيف وصارم لمدة خمس سنوات. وقال الوزير أحمد التوفيق إن “هذا التكوين مناسب لتحتضنه جامعة القرويين، في أفق ما تريدونه لها من وصل ماضيها بحاضرها، ومن إعداد العدة للاجتهاد الفقهي الرصين وللحوار حول هذا الدين، والمجادلة فيه بالتي هي أحسن”.
وتم إسكان الطلبة في ثلاث مدارس وهي المدرسة المحمدية ومدرسة الصفارين والمدرسة البوعنانية التي تم ترميمها من قبل، وارتفعت الطاقة الإيوائية لهذه المدارس إلى 105 أسرّة، وستعطى فرصة السكن بالأولوية لجميع طلبة الطور النهائي في جامعة القرويين.
|
وافتتحت دار المؤقت بعد ترميمها وإقامة عالم متخصص بها يقوم بدوره العلمي والتوجيهي كعالم مكلف بمراقبة الأهلة وإعداد برمجة ومواقيت الصلاة، وتعد الدار أيضا متحفا تعرض فيه أدوات فلكية مغربية وعربية قديمة تعكس الاهتمام الذي كان يتم إيلاؤه للزمان والمكان في الثقافة الإسلامية.
وتم اختيار مدرسة الصهريج لتلقين مسلك الخط العربي الذي تم إحداثه على مستوى جامعة القرويين، وستتألف الدفعة الأولى من خمسة عشر طالبا شرعوا في التكوين، والذين يؤطرهم خبراء من أكاديمية الفنون بالدار البيضاء وآخرون من مدينة فاس.
وبالنسبة إلى الغرف الخمس الموجودة بالمدرسة المصباحية فقد خصصت للعلماء القادمين من خارج فاس بقصد التدريس، لا سيما الأجانب منهم في إطار التعاون الدولي، وتخصيص باقي الأماكن غير المناسبة بها للسكنى كفضاء إداري لجامع القرويين. ومن المتوقع أن تصبح المدرسة البوعنانية فضاء مفتوحا لزيارة السياح في أوقات معينة من النهار رغم إقامة الطلبة بها.
وستأوي المدارس طلبة السلك النهائي بجامعة القرويين فضلا عن طلبة “العالمية العليا”، وحسب وزير الأوقاف المغربي، فإن درجة العالمية العالية تتميز بتلقين مواد جديدة، لا سيما اللغات الحية واللغات القديمة من قبيل اليونانية واللاتينية والعبرية، مشيرا إلى أن هذا السلك “الفريد من نوعه، يلجه الطلبة الحاملون لشهادة الباكالوريا، الحافظون للقرآن الكريم حفظا تاما”.
يشار إلى أن جامع القرويين يعد من أكبر المباني الدينية الأصلية بالغرب الإسلامي. وقد اشتهر بدوره الثقافي والفكري لاحتضانه جامعة القرويين التي تعتبر من أقدم المراكز العلمية والمؤسسات التربوية بالعالم الإسلامي.
ويمثل جامع القرويين نموذجا حيا للعمل التطوعي والإحساني الذي هو إحدى سمات المجتمعات الإسلامية. فقد شيدته الفاضلة الورعة فاطمة الفهرية خلال أواسط القرن الثالث الهجري، القرن التاسع الميلادي. وقد استمرت الدول التي تعاقبت على حكم المغرب في التدخل في جامع القرويين بتوسيعه وتزيينه وتجهيزه وترميمه.
ويجمع أغلب الباحثين على قدم جامعة القرويين، والظاهر أن الدروس كانت تلقى برحاب المسجد منذ تأسيسه خلال القرن الثالث الهجري، لكن بلورة نظام تعليمي في إطار الجامعة لم يتأكد إلا خلال العهد المريني، وذلك بتنظيم الدروس والامتحانات وبناء المدارس لتوفير السكن للطلبة الآفاقيين وبناء المكتبة العلمية وتعيين جهاز إداري تحت إشراف القاضي. وقد عرفت جامعة القرويين باهتمامها بشتى العلوم المتداولة آنذاك من علوم شرعية وعلمية وفنون أدبية وسير. واشتهرت باحتضانها لحوالي مئة وأربعين كرسي علمي كانت موزعة في جنبات البناية المتسعة الأكناف وفي المدارس والمساجد الأخرى التابعة لها.
يقول الحسن بن محمد الوزان الفاسي في كتابه “وصف أفريقيا” “وفي داخل الجامع على طول الجدران يشاهد المرء كراسي مختلفة الأشكال يدرس عليها العديد من العلماء والأساتذة”.
وشكلت جامعة القرويين كعبة العلماء من المغرب والأندلس وغيرهما، وقد أسهمت في تربية وتكوين الأجيال دون توقف بالرغم من التحولات السياسية التي شهدتها البلاد.
وكان رحاب الجامعة ميدانا للاحتكاك ومجالا للإبداع والعطاء. وترك علماؤها الفطاحل تآليف وتصانيف في مختلف العلوم، وهي تمثل جانبا أساسيا من تراثنا المخطوط.
وينبغي الإشارة إلى أن الطلبة الأجانب من غير المسلمين استفادوا من التجربة العلمية للقرويين ونهلوا منها، وشكل أولئك الطلبة أداة لنقل العلوم الإسلامية إلى أوروبا.