تجديد الشباب في مصر يتم حاليا بكثير من الاقتصاد وقليل من السياسة

تعطيل الإصلاحات السياسية يحوّل مصر إلى دولة تسير على عكاز واحد.
الأحد 2021/11/21
استقطاب دون تسييس

الحكومة المصرية تسعى لاستقطاب الشباب وتكوينه ليكون بدائل للمستقبل، لكن يتم التركيز على البعد الاقتصادي الحديث وتهميش الوعي السياسي، وهو وضع وإن كان يفيد في تخريج الكفاءات، لكنه يعيق الوصول إلى شباب مسيّس قادر على الدفاع عن النظام والإقناع بذلك.

يجد المتابعون لما يجري من تطورات سريعة في مصر أن هناك حرصا على تجديد دماء الدولة من بوابة الاقتصاد أكثر من السياسة، وتبدو غالبية فئة الشباب التي يتم الاستعانة بها في الحكم من نواب ووزراء ومحافظين وغيرهم من ذوي الطابع التكنولوجي والرقمي، وهو ما يصب في خانة الاقتصاد.

وتركز خطابات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي كثيرا على هذا البعد، وظهرت تجليات ذلك في العديد من المشروعات العملاقة التي يتم تنفيذها بطول البلاد وعرضها، وتكاد تنحصر فعالية المؤتمرات التي تعقد من حين لآخر في الاقتصاد وجدواه، والذي يحقق تقدما مهما في مصر بشهادات دولية عدة.

وتنصب مؤتمرات الشباب المحلية أو ذات الأبعاد الخارجية على الاقتصاد بفروعه المختلفة، فالدورة الرابعة لمنتدى شباب العالم التي أعلن عن انعقادها في يناير المقبل في شرم الشيخ سوف تهتم بالتنمية المستدامة ومكوناتها، وتحرص الدورات الشبابية التي تقدمها جهات حكومية عبر قنواتها على الاستفاضة أيضا في القضايا الاقتصادية.

يعني هذا المحدد أو القاسم المشترك في كثير من الفعاليات أن الدولة المصرية بحاجة إلى روح شابة من خارج الإطار الحكومي التقليدي، حيث توجد مشاريع متباينة تتمثل في أشخاص يستطيعون استكمال عملية إصلاح الجهاز الإداري للدولة كما يريدها الرئيس السيسي وليس كما تنفذها البيروقراطية الكلاسيكية في مصر.

ويقود العمل في هذا الاتجاه إلى تحقيق مكاسب لمؤسسات الدولة ويقلل من الخسائر التي تكبدتها سابقا عندما استسلمت لتصورات عقيمة أدت إلى عدم صمودها أمام رياح شعبية عاتية جرفتها أمامها عند أول محك حقيقي في يناير 2011.

وبدت الجرعة المكثفة التي تقدمها أجهزة الدولة في مجال الاقتصاد مفهومة لكثيرين، لأنها النافذة الرئيسية التي يمكنها أن تغير وجه الحياة في مصر وبدونها سوف تبقى عاجزة عن تقديم الحد الأدنى من متطلبات المعيشة للمواطنين وتقليص الأعباء التي ترهقهم، ويمكن أن تخرجهم عن السياق المرجو لنموذج الدولة المستقرة.

السيسي يريد مشاريع متباينة تتمثل في أشخاص يستطيعون استكمال عملية إصلاح الجهاز الإداري للدولة وليس كما تنفذها البيروقراطية الكلاسيكية
السيسي يريد مشاريع متباينة تتمثل في أشخاص يستطيعون استكمال عملية إصلاح الجهاز الإداري للدولة وليس كما تنفذها البيروقراطية الكلاسيكية

وباتت معالم هذا الأمر واضحة في برامج التنمية التي تقدمها الحكومة لمحدودي الدخل والمرجح تضررهم من ارتفاع مستوى الأسعار والخدمات والروافد السلبية للسياسات الاستثمارية الظاهرة في عدد من القطاعات البازغة، ما لم تكن هناك إجراءات موازية تتمثل في حزمة مشروعات حمائية لها مردودات إيجابية ومباشرة.

وجاء الاهتمام بالقدرات التنموية لدى شريحة كبيرة من الشباب الذين أتيحت لهم فرص واعدة على حساب تكوينهم السياسي، فمنح أولوية لقطاع الاقتصاد يتسق مع هوى الحكومة باعتباره رافعة مهمة في تقدم الدولة، لأنها غير معنية كثيرا بإحداث نقلة نوعية في الفضاء السياسي وإدخال إصلاحات حقيقية في هذا المجال.

وترد جهات محسوبة على الحكومة على اتهامها بتجاهل السياسة لحساب الاقتصاد، بأن التركيز على تدريب الشباب لم يمنع التعاطي مع السياسة، فهناك منظمات تقوم بدور معتبر في تأهيل الشباب وتدريبهم، مثل البرنامج الرئاسي للشباب، والأكاديمية الوطنية، وتنسيقيات شباب الأحزاب التي يتزايد دورها السياسي.

وتجتهد هذه الدوائر النخبوية في مسألة غرس تكوين سياسي لدى المنتسبين إليها بلون لا يسمح سوى بالتكيف مع النظام الحاكم وخطابه، وبالفعل خرّجت عددا منهم أصبحوا أعضاء في مجلس النواب وقيادات في بعض الأحزاب، ومسؤولين في وزارات، وسوف يخرج من بينهم كوادر مستقبلا يجري إعدادهم لنشرهم في مجالات متعددة.

وتؤكد هذه المعطيات أن تجديد شباب الدولة المصرية يتم عبر الكثير من الاقتصاد والقليل من السياسة، فطبيعة المجال الأول تعتمد على الأرقام والمعلومات الموثقة والبيانات الدقيقة، وتصعب قولبة المتدربين بنمط غير علمي، لأن الحصيلة ستكون فادحة، وهو ما يؤدي إلى إمكانية تحقيق نجاحات ظاهرة للعيان.

بينما في السياسة ليس من السهولة أن تتم قولبة المتدربين وحشو مفاهيم صماء في أذهانهم، لذلك يأتي السياسيون الناجحون غالبا من أسفل إلى أعلى، وما تقدمه الدورات والمنتديات والأكاديميات في التأهيل عبارة عن ضخ من أعلى إلى أسفل، وهي الصورة التي لا تتناسب مع طموحات مصر لتكون عصرية، ما يفرض التخلي عن الجزر السياسي ليتواءم مع المد الاقتصادي الذي حقق تقدما لافتا خلال فترة وجيزة.

وتسببت معضلتا الجزر والمد في أن جعلت المتدربين في جهات رسمية نمطية قليلي الخبرة وأصواتهم قد تكون غير مسموعة بالشكل الكافي، والأدهى أنهم لا يعبرون عن روح الدولة الشابة، لأنه تم غرس مفاهيم يقوم عدد كبير من الشباب بترديدها تلقائيا من دون وجود حد أدنى من الاشتباك السياسي المتعارف عليه، والذي يوفر لأصحابه قدرة عالية في أمور المناورة ودهاليزها.

ويخضع هؤلاء إلى تأهيل فوقي يضفي على الشباب طعما سياسيا واحدا يقوم على الحشو والتلقين ويبتعد عن الاحتكاك بالشارع، وإن حدث تظهر على كوادر الشباب علامات باردة أشبه بالمعلبات التي إذا تم تسخينها تفقد جزءا كبيرا من رونقها.

ويسير التأهيل الاقتصادي في طريق ويسير نظيره السياسي في طريق آخر، ولا يلتقيان عند المنطقة التي تريدها الروح الشابة لمصر، بما يفقد التجديد في هياكلها أبرز ملامحه، والذي يقوم على التوازن بين الجانبين، لأن كليهما مرتبط بالآخر.

إذا اختل أحدهما سوف ينسحب الخلل على الثاني بعد وقت، فقد يكون التقدم الحاصل في الاقتصاد مطمئنا في الوقت الراهن، لكن لا أحد يضمن الحفاظ على هذه المعادلة في المستقبل، فما يجري من اندفاع نحو الاقتصاد وتجاهل لكثير من أمور السياسة سوف يؤثر على تطلعات الدولة في النهاية، حتى ولو ارتضت أو رضخت الأحزاب لهذه النغمة، قسرا أو قهرا، ففي الحالتين يمكن أن تكون النتيجة واحدة.

وتحتاج الروح الشابة انفتاحا كبيرا في المجال السياسي، وتدريبا واسعا للكوادر الذين تعتمد عليهم ويتم التقاطهم من بين الناس وليس اختيارهم بحكم الوظيفة والمصلحة والقرابة والنسب، فمن مهام السياسي الناجح أن ينصهر في المجتمع الذي يمثله، ويعرف مشاكله وأوجاعه ويعمل على حلها بما يتناسب مع ما يريده وليس ما تريده المجموعة الحاكمة.

ويشعر مصريون برضا نسبي عن الأداء في المجال الاقتصادي للشباب، ولا يشعرون بنفس الدرجة من الرضا عن الأداء السياسي عندما يشاهدون أحدهم يتحدث في برنامج من برامج المساء المتشابهة على الفضائيات المصرية عن الإنجازات التنموية بلا وعي سياسي كاف.

وتشير هذه المفارقة إلى شكل الخلل الحاصل بين المجالين، والذي من المهم تصويبه لتظل الروح الشابة تسري في جميع وجوه الحياة بمصر، فاستثناء الإصلاحات السياسية مما يجري من إصلاحات عامة سوف يحول دون الوصول إلى حلم الدولة العصرية، أو يجعلها تسير على عكاز واحد ما يجعلها عرضة للسقوط في المحكات الوعرة.

4