تبريد الأجواء السياسية في مصر

لا يوجد نظام عاقل يمكنه السيطرة على كل مفاتيح السياسة في ظل الانتشار الكبير الذي تشهده مواقع التواصل الاجتماعي والتي باتت تلعب دورا مهما في مصر وغيرها من الدول.
الاثنين 2023/05/08
السياسة فن الممكن

وجدت الحكومة المصرية في دفع عجلة الحوار الوطني خطوة إلى الأمام فرصة جيدة لتبريد الأجواء السياسية كي لا تتضافر مع سخونة اقتصادية انعكست على حياة شريحة كبيرة من المواطنين، ما يعني أن قطار الإصلاحات قد يتخلى عن جموده، وأن أي تصرفات أمنية فردية لا تعني فرملته أو تقف عائقا في طريق انفراج مطلوب أن يكون منضبطا ووفقا لحسابات تراعي الصعوبات الإقليمية التي تواجه الدولة المصرية.

قد تكون كثرة الرسائل الرسمية وتناقضاتها أحدثت ارتباكا في صفوف بعض القوى السياسية التي لديها ما يكفي من الرشادة للتعامل مع الظروف الراهنة وعدم الاستثمار في تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية للضغط على النظام المصري، والذي استوعب الحاجة إلى تغييرات منذ أن أعطى الرئيس عبدالفتاح السيسي قبل حوالي عام إشارة البدء للحوار الوطني الشامل، وشكّل لجنة تابعة له للإفراج عن المعتقلين.

يبدو البطء واضحا في الحوار والتردد ظاهرا في عملية الإفراج، وربما هناك من يتحفظون على ذلك باعتبار أن البيئة العامة غير مستعدة للتعامل مع انفتاح سياسي يمكن أن يؤدي إلى فوضى قريبة من تلك التي حدثت بعد ثورة يناير 2011.

◙ مع انسداد بعض الطرق الاقتصادية والحاجة إلى تمرير عمليات بيع شركات حكومية لا يريد النظام الدخول في مناكفات جانبية في الداخل تؤثر على توجهاته لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية

مع ذلك فالمبررات الأمنية التي استند عليها النظام المصري لتفسير التضييق على الحريات بدأ معظمها يتلاشى، ما يفرض زيادة جرعة التنفيس في الفضاء العام.

يتجاوز التنفيس حدود الحاجة إلى إصلاحات سياسية مؤجلة منذ سنوات، لأن الأوضاع الاقتصادية زادت روافدها السلبية، وما لم تكن هناك قنوات لخروج البخار يمكن أن تظهر ثغرات تحمل نتائج خطيرة، خاصة إذا رأت قوى معارضة انحصارا كبيرا في حركتها يحجب عنها أي ممارسة سياسية، بما يضطرها إلى توظيف الأزمة الاقتصادية وتحميل الحكومة عواقبها، بصرف النظر عن التأثيرات الدولية التي أفضت إليها.

يفهم النظام المصري جيدا السياسة على أنها فن الممكن، وهو ما دفعه إلى استكمال استدارته بشأن الحوار الوطني بكل ما يحمله من دلالات للانفتاح على الآخر، وعدم السماح بإفشاله قبل أن تظهر ارتدادات واسعة للأزمة الاقتصادية.

وحوّل التعثر الذي واجه الحوار في بداياته إلى كرنفال في جلسته الافتتاحية، الأربعاء الماضي، والتي ضمت شخصيات محسوبة على توجهات متباينة ومرفوضة، اعتقد البعض أن النظام الحاكم نبذها تماما ولن يسمح بظهورها مرة أخرى.

تشير النظرة الفاحصة للأسماء التي حضرت الحوار وقد تشارك في فعالياته إلى عدم وجود بقر مقدس في السياسة، وكل شيء قابل للتغيير طالما أن الضرورة تقتضي ذلك، وهي رسالة للمعارضة تؤكد عدم استبعاد الوصول إلى مساحة مشتركة لأجل الإصلاح ومواجهة أزمة اقتصادية تنذر بمخاطر جسيمة إذا جرى استثمارها سياسيا.

يخطئ من يعتقد أن النظام الحاكم في مصر يريد تأميم السياسة على الدوام أو عدم ممارستها بأي صورة، فلا يوجد نظام عاقل يمكنه السيطرة على كل مفاتيح السياسة في ظل الانتشار الكبير الذي تشهده مواقع التواصل الاجتماعي، والتي باتت تلعب دورا مهما في مصر وغيرها من الدول، بعيدا عما إذا كانت متقدمة ديمقراطيا أو متأخرة، فالمناصب تحولت إلى “هايد بارك” يصعب التحكم في توجهاته.

◙ المبررات الأمنية التي استند عليها النظام المصري لتفسير التضييق على الحريات بدأ معظمها يتلاشى، ما يفرض زيادة جرعة التنفيس في الفضاء العام

يخطئ أكثر من يعتقد أن القاهرة لديها درجة عالية من السماحة لقبول ما تطرحه المعارضة بلا ضوابط أو معايير، فمع كثافة الصراعات الإقليمية التي تحيط بمصر قد لا تكون الدولة بعيدة عنها إذا تحولت السياسة فيها إلى صراع ديوك، وهي زاوية تجعل النظام المصري يتبنى ما يمكن وصفه بـ”الانفتاح بالقطارة” الآن، كتوجه ظل يراود الكثير من الأنظمة السابقة، ولا يبدو النظام الحالي بمنأى عنها.

على الرغم من الترهل الذي تعاني منه المعارضة المصرية والعقبات التي تواجهها، فإن العناصر النشطة فيها تتصرف بمسؤولية، فلم تتعاون مع جماعة الإخوان، أو تقفز على الأزمة الاقتصادية لإحراج النظام المصري الذي يستوعب هذا النوع من المحددات بما يدفعه إلى السعي للاحتواء ومحاولة التوصل إلى نقاط مشتركة بدلا من الصدام معها.

يحافظ كل طرف على شعرة معاوية، فكلما شدها طرف أرخاها الآخر، فقد لوحت المعارضة بالانسحاب ردا على بعض التصرفات الأمنية التي تخالف أدبيات الحوار الوطني، وتقوم الحكومة باتخاذ خطوة إيجابية أو أكثر تعيد الطمأنينة للقوى السياسية من خلال الإفراج عن دفعة من المعتقلين أو إخلاء سبيل محبوسين جدد.

تصلح لعبة الكر والفر في ممارسة السياسة عندما تكون الأجواء العامة صافية، وتستوجب الحالة المصرية التفاهم حول آليات تحدد قواعد اللعبة والهدف المطلوب منها، لأن السخونة التي يمر بها الاقتصاد في البلاد ربما لا تستطيع قوى المعارضة أو الحكومة تطويقها سريعا، فالمواطن العادي لا تهمه إصلاحات سياسية أو اقتصادية بقدر ما يهمه تخفيف حدة الأعباء عن كاهله.

يحصر النظام المصري دور السياسة في مدى قدرتها على توفير الهدوء والأمن والاستقرار وهو يرى ما يجري من حوله في دول عدة، ولم يكن يعبأ كثيرا بالضجيج الذي يحيط به من الداخل والخارج إلى أن بدأت الأزمة الاقتصادية تزداد صعوبة ويجد أن أدواته الناعمة أو الخشنة لن تسعفه في التعامل مع أي إفرازات تنجم عنها.

◙ نظرة فاحصة للأسماء التي حضرت الحوار وقد تشارك في فعالياته تشير إلى عدم وجود بقر مقدس في السياسة التي ينتهجها النظام المصري وكل شيء قابل للتغيير طالما أن الضرورة تقتضي ذلك

وتزيد قناعته بفتح نوافذ جديدة أمام قوى معارضة إذا وجد أنها تلتزم بضوابطه، وسوف يأتي الخوف من رفع منسوب المطالب السياسية، لأن ملفي الحريات وحقوق الإنسان في مصر يحظيان باهتمام دولي كبير، ولم تفلح الكثير من الخطوات التي اتخذتها القاهرة مؤخرا في إقناع منظمات دولية بجدواها، إذ رأتها أشبه بمسكنات سياسية لا تعبر عن تحركات جادة في ملف الإصلاحات السياسية.

وصلت القاهرة إلى يقين بأن استمرار التضييق لم يعد ممكنا، ليس لأن ضغوط المعارضة أفضت إلى هذه النتيجة وأن المطالب الخارجية للانفتاح لن تنكسر، بل لأن التصورات التي اتبعتها الحكومة في السياسة والإعلام والإجراءات الأمنية الصارمة مع معارضين لم تحقق للنظام المصري الأهداف التي يرغب في تحقيقها، ما يدفعه نحو البحث عن طرق أخرى تلبي تطلعاته وتتواءم مع الواقع.

مع انسداد بعض الطرق الاقتصادية والحاجة إلى تمرير عمليات بيع شركات حكومية لا يريد النظام الدخول في مناكفات جانبية في الداخل تؤثر على توجهاته لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية، ولزاما عليه عدم السماح بوجود سخونة سياسية موازية.

يدعم هذا التوجه تيار في المعارضة يأمل في التأسيس لأوجه تعاون قوية مع النظام الحاكم على قاعدة التضامن لمواجهة تحديات حرجة تمر بها الدولة وعدم السماح بحدوث غليان اجتماعي جراء متاعب ناجمة عن أزمة اقتصادية ممتدة، فمن المنتظر أن تستهلك وقتا لعبورها والوصول إلى بر الأمان.

9