تاورغاء والتهميش المستمر: ازدواجية المعايير وغياب العدالة الإدارية

تشهد مدينة تاورغاء تهميشًا في القرارات الحكومية والإدارية، ما يعكس تعقيدًا في الديناميكيات السياسية للحكومات في ليبيا. وبينما تتغير القرارات الإدارية بشأن وضع المدينة بين الاستقلال والتبعية، فإن ما يظل ثابتًا هو استمرار معاناة أهلها وحرمانهم من حقوقهم في الإدارة المحلية وحقّ تقرير مصيرهم والتمثيل السياسي.
وفي عام 2013 صدر القرار رقم 180 لإنشاء البلديات في ليبيا، والذي منح الاستقلال الإداري لبلديتي زمزم وتاورغاء، إلا أن هذا القرار أُلغي لاحقًا بقرار آخر يحمل رقم 540 للسنة نفسها، ليصبح حال البلديتين معلقًا، خاصة أهالي مدينة تاورغاء الذين كانوا يعانون من ويلات التهجير القسري في تلك السنوات. ثم جاءت قرارات أخرى لاحقة، مثل قرار رقم 6 لمجلس وزراء الحكومة المؤقتة لسنة 2015، الذي منح تاورغاء استقلالية إدارية مجددًا، وسمح للمفوضية الوطنية العليا للانتخابات بأن تستند على هذا القرار باعتماد الدائرة الانتخابية رقم 308 لبلدية تاورغاء عند إصدارها اللائحة التنفيذية لانتخابات المجالس البلدية وتعيين الدوائر الانتخابية في سنة 2023. إلا أن قرار مجلس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية رقم 671 لسنة 2024 أعاد الأمور إلى نقطة الصفر، بإلغاء استقلال البلديتين وتحويلهما إلى مجرد فروع تابعة لبلدية مصراتة.
ويعكس التناقض الواضح والعشوائية في إصدار القرارات غياب الاستقرار الإداري والقانوني في ليبيا، حيث تُتخذ القرارات بناءً على حسابات سياسية بحتة، دون التزام بخطة واضحة تحقق التنمية المتوازنة لكل المناطق في ليبيا.
تهميش تاورغاء في القرارات الإدارية وتعامل المفوضية الانتقائي مع وضعها يعكسان مزيجًا من التلاعب السياسي وضعف الإرادة في معالجة آثار النزوح
وعندما أعلنت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات عن الدفعة الثانية لانتخابات المجالس البلدية، استندت إلى القرار 180 لسنة 2013 لإدراج بلدية زمزم ضمن القوائم المستهدفة.
وتكمن المفارقة في أن هذا القرار ذاته تم إلغاؤه وتعديله لاحقًا في السنة نفسها، حيث تم إصدار القرار 540 الذي يعيد ترتيب البلديات في ليبيا ويستبعد بلديتي زمزم وتاورغاء، ورغم كل ذلك تم استهداف بلدية زمزم لانتخابات المجالس البلدية في الدفعة الثانية وفقًا لقرار الإنشاء لسنة 2013 رقم 180، بينما لم تُدرج بلدية تاورغاء في القائمة ذاتها، رغم أنها مشمولة بالقرار نفسه وتملك قرارًا آخر لسنة 2015 يؤكد استقلاليتها كبلدية، وحكمًا قضائيًا صادرا عن محكمة استئناف طرابلس بوقف تنفيذ قرار 671 لسنة 2024 الصادر عن مجلس الوزراء.
ويثير هذا التناقض أو التمييز أو التهميش تساؤلات حول معايير المفوضية في اختيار البلديات المستهدفة، ويشير إلى ازدواجية في تطبيق ونفاذ بعض القوانين دون أخرى، ويبدو أن هناك توجهًا سياسيًا يحاول التلاعب بالقرارات لخدمة أجندات معينة، خاصة مع وجود تأثير محتمل من بلدية مصراتة مدعوم من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، التي قد تسعى للإبقاء على تاورغاء تحت سيطرتها لأسباب جغرافية واقتصادية.
ولطالما لعبت بلدية مصراتة دورًا مؤثرًا في المشهد السياسي الليبي، ما يعزز احتمال وجود مصالح في استمرار تبعية تاورغاء لها. فالتاريخ المعقد بين المدينتين منذ أحداث 2011 أدى إلى توتر العلاقة بينهما، ورغم اتفاق 2018 لا يزال أي قرار يمنح تاورغاء استقلالًا إداريًا موضع جدل كبير.
ويعاني أهالي تاورغاء من ضعف التمثيل السياسي نتيجة التهجير القسري والمعاناة المستمرة، ما حال دون قدرتهم على تشكيل قوة ضغط للدفاع عن مصالحهم. وفي المقابل، تتمتع مصراتة بنفوذ سياسي قوي يمكّنها من التأثير في صناعة القرارات.
وفي عام 2021 أصدر مجلس الوزراء بحكومة الدبيبة القرار رقم 175، الذي نص على إنشاء منطقة حرة داخل الحدود الإدارية لبلدية تاورغاء، تحت مسمى “المنطقة الحرة شرق مصراتة”. إلا أن محكمة استئناف طرابلس ألغت هذا القرار، مشيرة إلى وجود مخالفات قانونية وغياب الصلاحيات اللازمة لإنشاء المناطق الحرة.
وتدور مزاعم حول سعي بلدية مصراتة إلى ضم تاورغاء كفرع بلدي تابع لها، وذلك لعدة أسباب، من بينها السيطرة الكاملة على إعادة إعمار المدينة بعد الدمار والتهجير، إضافة إلى إدارة المنطقة الحرة المزمع إنشاؤها.
وقد ظهر هذا التوجه بوضوح في الحملة الانتخابية لعميد بلدية مصراتة، محمود السقوطري، حيث أكد أن التوسع العمراني في مصراتة لن يكون إلا في الاتجاه الشرقي، في إشارة إلى بلدية تاورغاء.
وتتجلى هذه المساعي أيضًا في قرارات رئيس الوزراء، الذي أعاد تسمية المنطقة الحرة الواردة في القرار الملغى، كما يتضح من القرار رقم 6 لسنة 2025 الصادر عن بلدية مصراتة بتكليف رؤساء للفروع البلدية في زمزم وتاورغاء وبونجيم، استنادًا إلى القرار رقم 671، الذي أوقفت محكمة استئناف طرابلس تنفيذه. وتعزز كل هذه التحركات الشكوك حول وجود أطماع اقتصادية لكل من رئيس الحكومة وبلدية مصراتة في هذه المناطق.
التناقض الواضح والعشوائية في إصدار القرارات يعكس غياب الاستقرار الإداري والقانوني في ليبيا، حيث تُتخذ القرارات بناءً على حسابات سياسية بحتة، دون التزام بخطة واضحة تحقق التنمية المتوازنة لكل المناطق في ليبيا
ويثير اعتماد المفوضية على قرار ملغى (180 لسنة 2013) لإدراج زمزم، وتجاهل القرار نفسه في ما يخص تاورغاء، الشكوك حول حيادها وشفافية قراراتها، فالمفوضية من المفترض أن تتعامل مع كافة المناطق بإنصاف، لا أن تخضع لضغوط سياسية من جهات أقوى.
ولذلك فإن تهميش تاورغاء في القرارات الإدارية وتعامل المفوضية الانتقائي مع وضعها يعكسان مزيجًا من التلاعب السياسي وضعف الإرادة في معالجة آثار النزوح واستمرار تأثير الصراعات الماضية على قرارات الحاضر.
ويعكس استمرار تهميش تاورغاء وإقصائها من القرارات الإدارية والسياسية ازدواجية المعايير التي تتبعها الحكومات المتعاقبة والمؤسسات الرسمية في ليبيا. فتناقض القرارات الإدارية، وغياب الاستقرار القانوني، وتجاهل الأحكام القضائية، كلها عوامل تؤكد أن مصير المدينة لا يزال يُحدد بناءً على اعتبارات سياسية ومصالح اقتصادية أكثر من كونه استحقاقًا قانونيًا وإنسانيًا.
ولا يعزز تجاهل حقوق أهالي تاورغاء في إدارة شؤونهم المحلية والتمثيل السياسي العادل المصالحة الوطنية، بل يرسخ الإقصاء والتمييز، ما يزيد من تعقيد المشهد الليبي ويعرقل جهود بناء دولة قائمة على العدالة والمساواة. وإذا استمرت هذه السياسات، فإنها لن تؤدي إلا إلى المزيد من التوتر والانقسام، بدلاً من تحقيق التنمية والاستقرار المنشودين.