تاريخ الفرق الرياضية في تونس جزء من تاريخ النضال ضد الاستعمار

التنافس الحالي بين فريقي الترجي الرياضي التونسي والناي الأفريقي، والذي يبدو للوهلة الأولى تنافسا كرويا رياضيا، هو أكثر من مجرّد تنافس بين فريقين متجاورين في الأرض والتاريخ، وهو أيضا أبعد وأعمق من مجرّد مقابلات ونتائج وألقاب. الحماسة التي سادت وتسود علاقات الفريقين تنطلق من جذور تاريخية واجتماعية ووطنية؛ إذ هي نابعة من تاريخ مدينة تونس وأرباضها وأحيائها، وهي مشتقة من رؤية سكان الحاضرة لهويتهم مقابل التصوّر الفرنسي للمدينة وللعلاقات، وهي كذلك مترتبة عن أشكال نضالية تدبّرها سكان المدينة للنضال الوطني الذي اتخذ أشكالا شتى: سياسية واجتماعية وثقافية ورياضية. في المحصلة مباراة الأجوار التي تجمع النادي الأفريقي والترجي هي خلاصة جزء من التاريخ المعاصر لمدينة تونس بكل تقلباته، الأمر الذي نجده حتما في تنافس الأهلي والزمالك في القاهرة، أو الوداد والرجاء في الدار البيضاء.
الاثنين 2016/05/02
حي باب سويقة معقل فريق الترجي وموطن ولادته

يُعتبر تاريخ فريقي النادي الأفريقي والترجي الرياضي التونسي جزءا من تاريخ مدينة تونس العتيقة بأرباضها التقليديّة، ويرتبط ارتباطا حميما بذاكرتها في النصف الأوّل من القرن العشرين إبّان الاستعمار الفرنسي، قبل أن يخرجا بعد استقلال البلاد سنة 1956 بإشعاعهما وشعبيتهما خارج أسوار ربضي باب الجديد وباب سويقة حيث نشآ وترعرعا، وحيث يُوجد مقرّهما إلى الآن ليشملا كامل أنحاء البلاد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

بقدر ما ارتبط تاريخ الفريقين عند نشأتهما وترعرعهما بالنضال الوطني ضدّ الاستعمار، بل بنضال المدينة العتيقة وهي تقاوم من أجل البقاء محتضنة الهوية العربية الإسلاميّة خوفا عليها من التلاشي والاضمحلال، وتصمد أمام زحف المدينة الحديثة التي تحاصرها وتضيق عليها الخناق، والتي بدأ المستعمر في تشييدها تدريجيا حذوها، عكس تاريخ الفريقين وتنافسهما بعد بناء دولة الاستقلال الوطنيّة إلى حدّ بعيد تقلبات السياسة التونسيّة وتأثرا بمطبّاتها وبمنعرجاتها وارتهنا إلى صراعات أجنحة الحكم فيها على السلطة والنفوذ والوجاهة.

غير أنّ تاريخ الفريقين ابتداء من ستينات القرن الماضي إلى اليوم وتأثّره بلعبة السلطة والتناحرات السياسية وصراعات جماعات المال والأعمال، لم يحجب في ذاكرة التونسيين عموما وذاكرة تونس الحاضرة تاريخ الفريقين باعتبارهما حاضنين للهوية التونسية العربية الإسلامية زمن الاستعمار وملجأ لها في ربضين من أشهر أرباضها. باب الجديد وهو منشأ النادي الإفريقي ومولده، وباب سويقة مهد الترجي الرياضي التونسي وموطنه.

الباب الجديد هو الباب السادس الذي أحدث في أسوار المدينة خلال عهد السلطان يحيى الحفصي سنة 1278 وسمي بذلك، وقد تضرر هذا الباب خلال الفتنة الباشية الحسينية في الربع الثاني من القرن الثامن عشر، قبل أن يقع تجديده في عهد علي باي بن حسين سنة 1769.

يفتح على شارع بنفس الاسم، يعرف أيضا باسم باب الحدادة، لأن الباب ينفذ إلى سوق الحدادة.

تاريخ الفريقين وتأثره بلعبة السلطة لم يحجب اعتبارهما حاضنين للهوية العربية الإسلامية زمن الاستعمار

أمّا باب سويقة فهو يقع قرب حي الحلفاوين المجاور لباب العسل وباب الأقواس، بين باب البنات وباب قرطاجنة من الأسوار الداخلية، وبين باب الخضراء وباب سعدون من الأسوار الخارجية للمدينة العتيقة، وكان قد هُدم عام 1861. وهو حاليا أيضا أحد الأحياء الشعبية لمدينة تونس نسبة إلى ذلك الباب.

جاءت تسمية باب سويقة من تصغير لكلمة ساقية، وتوجد فيه العديد من المعالم التاريخية وأهمها على الإطلاق زاوية سيدي محرز وجامع باي محمد وجامع الزرارعية.

عُرف كلّ من البابين والحيّين اللذين يفتحان عليهما خلال الفترة الاستعمارية بانخراطهما في حركة النضال الوطني، وشهدا العديد من المظاهرات الشعبية الصاخبة على امتداد النصف الأوّل من القرن الماضي. فباب سويقة كانت توجد فيه مكاتب العديد من زعماء الحركة الوطنية ومن بينها مكتب المحامي الزعيم الحبيب بورقيبة، وصيدلية بن حمودة، ومكتب المحامي صالح بن يوسف.

وكان الحيّان يشهدان في شهر رمضان احتفالات ومواكب عديدة حيث توجد فيهما العديد من قاعات السهرات الليلية أو ما يسمى «الكافيشانطا» التي اختصّ بها باب سويقة على وجه التحديد كما كانت مقاهيهما التقليدية معقلا للثقافة الوطنية وكان ينشّطها خاصة في ليالي رمضان الفداوي أو الحكواتي بخرافاته وقصصه العجائبية وملاحمه التي كان أبطالها سيدنا عليّ وهو يصارع رأس الغول وعنتر بن شدّاد والجازية الهلاليّة، كما عرف بعضها بكونها ملتقى الأدباء والفنانين والرياضيين مثل مقهى العبّاسيّة وخاصة مقهى تحت السور بباب سويقة الذي شهد ميلاد حركة أدبية متميزة في ثلاثينات القرن الماضي، أنشأها أدباء شباب من رواد التجديد لعلّ أشهرهم علي الدوعاجي رائد القصّة القصيرة في تونس، كما شهدت نشاطا مكثفا لجيل يحاول التنظّم في هياكل رياضيّة مستقلّة عن الفرنسيين حفاظا على الهويّة الوطنية في مرحلة أولى وانخراطا في مرحلة ثانية في النضال من أجل الاستقلال الوطني.

فكرة إنشاء فريقين تونسيين والتحصن بربضين من أرباض تونس دلالة رمزية تشير إلى الرغبة في الدفاع عن الذات

من هنا ولدت فكرة إنشاء فريقين رياضيين تونسيين والتحصّن بربضين من أشهر أرباض تونس الحاضرة كدلالة رمزية تشير إلى الرغبة في الدفاع عن الذات وصونها من التلاشي والاضمحلال. كانت القوانين الفرنسيّة تحجّر على التونسيين بعث جمعيات خاصة بهم وتجبر هواة ممارسة لعبة كرة القدم على الانخراط في الجمعيات الفرنسية غير أنّ الإصرار والعزيمة جعلا ثلّة من الرياضيين ينجحون في الحصول على الموافقة المبدئية والشفويّة من السلطات الفرنسية على إحداث فريق الترجي في نوفمبر 1918 وذلك بعد أشهر من الانتظار، لكن بفرض تسمية رئيس فرنسي عليه وتمت تبعا لذلك تسمية المدعو مونتاسيي على رأس الفريق قبل أن تتراجع هذه السلطات وتسند في يناير1919 إلى مؤسسي الترجي الترخيص القانوني والرسمي إيذانا بتأسيس أوّل فريق تونسي صرف.

ولم يكن النادي الإفريقي أفضل حظّا؛ فقد كانت ولادته عسيرة، بحيث رفضت الإدارة الاستعمارية منحه الترخيص سنة 1919 بسبب تسميته النادي الإسلامي الأفريقي إشارة إلى ديانة مؤسسيه من المسلمين، وفرضت عليهم شروطا تعجيزية أولها تعيين رئيس فرنسي على رأس الفريق، ثم تغيير الألوان المختارة لتمييزه (الأحمر والأبيض) وتغييرها باللون الأزرق وهو أحد ألوان العلم الفرنسي. رفض مسؤولو الفريق الإذعان لهذه الشروط، وبعد جهد جهيد تمكنوا من الحصول على الموافقة الرسمية من قبل السلطات الفرنسية، بما في ذلك الموافقة على الجنسية التونسية لرئيس الجمعية وحرية اختيار شعار الفريق وألوانه وذلك في 4 أكتوبر 1920.

انطلق الفريقان في ممارسة نشاطهما متنافسين رياضيا وعلى استقطاب الجماهير التونسية خارج أسوار المدينة العتيقة، وفي كامل أنحاء البلاد، ولكن تنافسهما الأهمّ تمثّل في أيّهما يقدّم خدمة أكبر للقضية الوطنية في التحرّر من الاستعمار.

لم يكن الواحد منهما غريم الآخر وإنّما نصفه الثاني المكمّل له للذود عن الذات، كانا يوجدان تحت سقف واحد، سقف المدينة العتيقة بدلالاتها الرمزية والحضارية في مواجهة المدينة الزاحفة الإفرنجية، وكغيرهما من الجمعيات الرياضية والكشفيّة والثقافية ساهمت جمعيتا الترجي الرياضي التونسي والنادي الأفريقي في بلورة المشروع الوطني الذي دحر الاستعمار، ثم بناء الدولة الوطنيّة الحديثة.

12