تأميم الكاتب

انتقلوا من وضع كتاب وفلاسفة وعلماء اجتماع ومنظري أدب… إلى منشطي برامج إعلامية، يقولون كلاما عاديا، إن لم نقل تافها أحيانا.
الأربعاء 2018/09/26
إدوارد سعيد قاطع الإعلام الأميركي

في التسجيلات التي يضعها موقع الكوليج دو فرانس رهن إشارة العموم ثمة دروس افتتاحية عديدة في اختصاصات شتى، بعضها يكاد يلخص جوهر أطروحات أصحابها في الفيلولوجيا والفلسفة المعاصرة وعلم الأديان المقارن وتاريخ الفن..، وبعض آخر يعيد التفكير في جدوى شيء اسمه الدرس الافتتاحي، وما ينبغي أن يكون عليه؛ وعدد ممن يقدمون هذه الدروس يكادون يغيبون بشكل كلي عن المشهد الثقافي الفرنسي والأوروبي، بالرغم من قيمتهم العلمية والأكاديمية الرفيعة، بل منهم من لم يسبق أن ظهرت صورة له في صحيفة لوموند مثلا.

وبإلقاء نظرة على العدد الإجمالي لمن شاهد درسا من تلك الدروس الافتتاحية نكتشف ضآلته الواضحة، مقارنة بأي حوار موضوع على الشبكة لكاتب حاضر بكثافة في الإعلام، طبعا يمكن أن ننظر إلى الأمر باعتباره محصلة طبيعية، لأن حوار الباحث بخصوص قضايا عامة أو حتى خاصة لجمهور عام من المفترض أن يستقطب عددا أكبر مما قد يستقطبه مختصون في محاضرات، فقط حينما نعيد النظر في مبدأ حديث الباحث والكاتب إلى العموم ينبغي التوقف عند قاعدة أساسية، وهي أن التبسيط لا يمر دون خسائر وأعطاب، بالنظر إلى قيمة الأفكار المطروحة، وهي المحصلة المتأتية من الخروج من دائرة التحليل إلى دائرة التواصل.

في هذا السياق يجدر التنويه بمبدأ أساسي لدى عدد كبير من المؤسسات العلمية العريقة، من مثل الأكاديمية الفرنسية مثلا، في اختيار أعضائها الجدد من الكتاب والباحثين الكبار، يقضي بألا يكون الشخص المرشح وجها مستهلكا من قبل قنوات التواصل والصحافة، ليس لأن الشهرة الفائقة تتناقض ومسارات الاجتهاد والتراكم، ولكن لأن التواصل الدائم يفقد صاحبه السكينة اللازمة لإنتاج أفكار حقيقية والحفاظ على قدرة التأثير.

 لا أنسى في هذا السياق كيف اتخذ إدوارد سعيد قرارا مفاجئا في السنوات العشر الأخيرة من حياته بمقاطعة الإعلام الأميركي؛ وتعقيبا على هذا الاختيار أوضح أن حضوره في البرامج السياسية بات بهدف واحد، وهو تلقي عدوانية المحاورين، ونفي تهمة الدفاع عن الإرهاب أو تبريره، بتبسيط واختزال مخلين.

استثارني هذا الموقف بشكل كبير بعد تبديد هالة العمق عن عدد كبير من الكتاب العرب، في العقدين الأخيرين، بالتزامن مع تنامي المحطات التلفزية المنتشرة طولا وعرضا، من المحيط إلى الخليج، وتسابقها لملء برامجها بوجوه فكرية وأدبية معروفة، صحيح أن عددا معتبرا من الأسماء في حقول الفلسفة والرواية والنقد الأدبي والسوسيولوجيا والفكر السياسي… أضحى لها حضور بارز مقارنة بوضع آخرين في زمن سابق، لكن صورتهم أصبحت في المقابل فاقدة لخاصية الندرة المتصلة بجوهر القيمة، وانتقلوا من وضع كتاب وفلاسفة وعلماء اجتماع ومنظري أدب… إلى منشطي برامج إعلامية، يقولون كلاما عاديا، إن لم نقل تافها أحيانا.

15