تأريخ في محلات "الخردة"

أصابني الأسى وشعرت بحزن جعلني أجثو على ركبتي، حين نظرت إلى صندوق “الكارتون” الكبير، الذي احتوى على عشرات الكاميرات من شتى الماركات التي أحيلت على التقاعد المبكر، وهي بكامل أناقتها وصناعتها الفاخرة.
قال لي بائع “الخردة”: اقتنها كهدايا، حين سألته عن جدوى استخدامها الآن، وأنا أعاين ماركاتها الشهيرة من أنواع الماميه، واللايكا، والزنث، والنيكون، والكانون، وسواها من الماركات التي أحالتها التقنية الحديثة إلى مجرد قطع زينة محكمة الصنع، وباتت مجرد ذكريات من تأريخ الفوتوغراف القريب.
يوم كانت الأفلام الجيلاتينية التي تحمّض وتطبع بمحاليل سحرية وتتراءى لك بعد حين صورا في مختبر التصوير بالأسود والأبيض، لكنها شاخت وأحالت آلاف المصورين حول العالم على التقاعد، أو في أحسن الأحوال فرضت التحول القسري إلى تقنية الديجيتال الملونة، بعيد استخدام الكاميرات الحديثة والموبايلات للتصوير بديلا، والدخول في زمن وتقنية مغايرين تماما.
ألغت عصر الكاميرات التي تضم في قلبها الأفلام المدورة من نوع فوجئ وأخواتها إلى مجرد ذكريات تحوي بين ثناياها تاريخ قرن من زمن الفوتوغراف بالأسود والأبيض الذي أنفقت البشرية خلاله عقودا من الصبر في غرف التصوير والتحميض والطباعة بتلك الكاميرات الثمينة.
كل شيء أصبح أثرا بعد عين، بعد أن مرت أزمنة تطور تقنية الكاميرات في رحلة التصوير الضوئي اليدوية لتسدل الستار عن ذلك العصر من الانتظار والترقب حتى تخرج صور تلك الكاميرات الثمينة التي كان الناس تفاخر باقتنائها.
لكنك حين تشاهد أنواع الكاميرات التي كدسها عامل المزاد في صناديق الخردة تشعر بحزن على موتها المبكر، سوف تعاني كثيرا حين تستذكر الأمكنة والأشخاص الذين رافقوا رحلة قرن من عناء التصوير الضوئي، حين تمر عليها تعيدك إلى زحمة وتشابك الوجوه وحكايات المجازفات من زمن البطولة في تأريخ التصوير الصحافي أو تعود بك لاستذكار رحلة الفن والجمال لعالم الأسود والأبيض.
في وقت اختلف فيه العالم كثيرا وباتت الناس لا تعرف غير لغة التعامل مع حداثة التقنيات المستحدثة وسيادة لغة المنفعة التي تطيح بكل أرث اعتقدته يستحق الاحترام والبقاء، والتي فرضت خواء الآلات التي رميت في صندوق الفرجة للبيع بأسعار زهيدة.
تدرك لحظتها قسوة الزمن الذي تتسابق فيه خيول التكنولوجيا نحو القفز على كل ما هو سائد وانبهار الناس بكل جديد لتحيل تلك الصنعة أو سواها إلى مجرد ذكريات جميلة للبيع ولكن بأسعار “الخردة”.