بين الوعد الصادق والأسد الصاعد

منذ أن انتصرت الثورة الإيرانية عام 1979 لم تكن الجمهورية الإسلامية مجرد دولة بل كانت مشروعا أيديولوجيا تمدديا يتكئ على ما سمي بـ"تصدير الثورة".
السبت 2025/06/28
النظام لم يسقط، الرواية سقطت

قبل السابع من أكتوبر 2023، تشكلت قناعة راسخة في أذهان الكثيرين: إيران كسبت معركة النفوذ في الشرق الأوسط، وإنها على وشك إحكام قبضتها على المنطقة لعقود قادمة. والسبب، الفراغ الأميركي واهتزاز صورة القوة القاهرة بعد الانسحاب المذل من أفغانستان.

إيران نجحت في السيطرة على أربع عواصم عربية وعلى معظم المضائق الإستراتيجية وربطت طهران ببيروت ومنها بالمتوسط وانتزعت شرعية لميليشيات تدين بالولاء المطلق لولاية الفقيه حتى بات ينظر إليها كإمبراطورية مذهبية على عرش الجغرافيا.

منذ أن انتصرت الثورة عام 1979، لم تكن الجمهورية الإسلامية مجرد دولة، بل كانت مشروعا أيديولوجيا تمدديا يتكئ على ما سُمِّي بـ”تصدير الثورة”، فغذت شبكات الولاء العقائدي والمسلح في العواصم الأربع بالمال والسلاح وجعلتها خط دفاعها الأول أمام العدو.

فشرعت طهران ترسم جغرافيا نفوذها على أجساد أنظمة هشّة، وتتقدّم بثقة نحو عدن، لولا أن التحالف العربي قطع الطريق في 2015، وكانت صلابة الجنوب اليمني آخر السدود،  لم يكن أحد في المنطقة يتخيّل أن هذا الامتداد سيتوقف، خصوصا بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وما تركه من فراغ مهّد لتمدد مشروع “الممانعة” الذي تحوّل إلى عقيدة دائمة في ذهن النخب العربية، حتى ظنّ كُثُر أن النظام الإيراني قد غدا قدرًا لا مردّ له، وأن الجغرافيا قد انحازت للملالي إلى الأبد.

هذه الحرب قد لا تكون الأخيرة لكن الثابت والأكيد أنها رسمت قواعد اشتباك جديدة ومخاوف إسرائيلية من أن المارد الجريح وإن تعرض لهزيمة مؤلمة قد يستفيق مجددا بعد حين، خاصة وأن اليوم التالي في إيران لم يأت بما تشتهيه سفن إسرائيل

الفراغ الأميركي هو ما تحركت فيه إيران فعليا؛ فمنذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، أصيبت المنطقة بفراغات إستراتيجية وجدت فيها طهران فرصة لملء النفوذ عبر وكلائها. وكما كان “حزب الله” في جنوب لبنان يمثل مركز الثقل الإيراني خارج الجغرافيا الإيرانية، كانت “حركة حماس” تشكل بيدقا متقدما داخل الخارطة السياسية الإسرائيلية قبل أن تكون الفلسطينية.

كان على إيران أن تتخذ قرارها الحاسم بتحريك هذا “الحجر” على رقعة الشطرنج، على أمل تعطيل المسار الناشئ بين الرياض وتل أبيب ضمن قطار الاتفاقيات الإبراهيمية للسلام. فاكتمال هذا المسار يُسقط البند الوجودي لإيران الخمينية، إذ أن السلام يعني خسارة ورقة المقاومة، وبذلك تنهار فرضية “تصدير الثورة”، وبالتالي تحجيم إيران والحد من طموحاتها التوسعية.

حسابات دفعت إيران إلى اتخاذ القرار بخلط أوراق المنطقة عبر بوابة غزة، فدفعت “حماس” إلى تفجير اتفاق تطبيع تاريخي بين السعودية وإسرائيل. لم يكن الهجوم خطوة تكتيكية، بل إعلان عن مرحلة اشتباك علني غير مسبوقة، لم تدرك طهران حينها أنها فتحت بوابتها إلى الجحيم.

إيران أغفلت تفصيلا مهمّا، وهو أنّ فائض القوة والتمدد الجغرافي كانا امتدادا صلبا في الظاهر، لكنه كان هشا في العمق. فالاعتماد على ضعف الدولة الوطنية زاد انكشافها وسهّل على إسرائيل تجنيد عملاء عابرين للحدود ساهموا برسم مخطط رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي عمل عليه لسنوات. تل أبيب قرأت الفراغ الأميركي كفرصة، واستثمرته في بناء بنية أمنية، مدعومة بتقنيات استخباراتية وقدرات سيبرانية وخبرات بشرية عبر شبكات متغلغلة في قلب “محور المقاومة”.

ولكن ما لم نتوقعه هو أن يحقق نتنياهو حلمه بعدما أعلن من منبر الأمم المتحدة نيته تغيير وجه الشرق الأوسط بهذه السرعة وبهذا الامتداد. فجاء السابع من أكتوبر هدية ثمينة لنتنياهو ليفتح صندوق باندورا ويسقط كل المحرمات بضربات نوعية واغتيالات لشخصيات اعتقدنا أنه لا يمكن الوصول إليها، وصولا إلى تفجيرات البايجر واصطياد قيادات المحور حتى آخر حبة في العنقود.

انفجر الصندوق، وكُسرت التابوهات، وبدأت إسرائيل تنفيذ خطة لم تكن وليدة اللحظة، بل مشروعا إستراتيجيا أعدّه نتنياهو واحتفظ به طويلا في رأسه.

قال إنها سترسم نهاية “دول اللعنة” وخروجها من عتمتها. لم يصدقه أحد آنذاك. أما اليوم، فقد باتت “حدود الأمن القومي الإسرائيلي” تمتد شرقا لمسافة ألفي كيلومتر حتى طهران، وجنوبا إلى عمق البحر الأحمر عند باب المندب.

ما عاشته طهران في الأشهر الأخيرة لم يكن مجرد سلسلة من الهزائم العسكرية، هذه ليست ضربة عسكرية فحسب… إنها ضربة في صميم الرواية، رواية بدأت بالثورة وانتهت بالسقوط الحر أمام شعب مُنهك

وبات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي يتباهى علنا باستهداف مواقع تتجاوز حدود الجغرافيا، في رسائل واضحة للعالم تقول إن زمن الردع بالتلميح قد ولّى، وإن زمن الردع بالقصف قد بدأ.

كانت ردّة فعل الدولة العبرية على هجوم 7 أكتوبر متدرجة، وإن بدت في ظاهرها عنيفة في غزة، إلا أنها استندت إلى إستراتيجية أوسع، تهدف إلى بناء منظومة ردع إسرائيلية جديدة، تأخذ في الاعتبار المتغيرات الإقليمية ومتطلبات ما تسعى إليه تل أبيب، بعد أن اختبرت جيدا مكامن الضعف في محيطها العربي.

لأول مرة منذ عقود، انتقل الردع من أيدي الإيرانيين إلى يد إسرائيل، لم تعد طهران تمسك بخيوط الحرب عبر وكلائها، بل باتت تتلقى الضربات في عمق أراضيها، وترد بردود شكلية: وعد صادق واحد، ثم اثنان، إلى أن جاء الوعد الثالث… لكنه جاء متأخرا. انتظرت إيران طويلا قبل الكشف عمّا لديها من قدرات صاروخية فانتهزت إسرائيل فرصة الصبر الإستراتيجي ومهدت الطريق نحو طهران بعد إسقاط نظام الأسد وتدمير الدفاعات الجوية.

اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران، واستهداف السفارة الإيرانية في وسط دمشق، لم يكونا رسائل استخباراتية بقدر ما كانا إعلانا صريحا عن كسر اليد التي لطالما فاوضت تحت الطاولة، وأحكمت الخناق فوقها. ومع تصاعد الضربات الجوية على مواقع الحرس الثوري والحوثيين والسوريين واللبنانيين، سقطت أقنعة “محور المقاومة”، وتحول من مشروع أيديولوجي إلى هدف عسكري مكشوف.

لكن التحول الحاسم لم يكن في يد إسرائيل وحدها، بل جاء عندما عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حاملا وعده بإعادة الهيبة، فأصدر أوامره في 22 يونيو 2025 باستخدام القاذفات الإستراتيجية B – 2 لقصف منشآت فوردو ونطنز وأصفهان. لم يكن القصف مجرد عملية عقابية، بل إعلان إستراتيجي عن عودة واشنطن إلى المنطقة والعالم ولكن بشروط جديدة. استُخدمت قنابل GBU – 57 الخارقة للتحصينات للمرة الأولى في قتال فعلي، فاخترقت عمق الجبال حيث ظنت إيران أنها أخفت سرها النووي، ليُكشف في الهواء الطلق، وتُعاد خارطة الردع إلى المربع الأول. كتب ترامب جملة “البرنامج النووي الإيراني انتهى، وأن وقت السلام قد حان،” لكن هذا السلام لم يعد مجانيا، والصعود إلى قطار التطبيع لم يعد بلا تذكرة، ومن لا يشتريها بشروط الردع الجديد فلن يجد له مقعدا.

نتنياهو قام بتتويج معادلة جيوسياسية جديدة رسمتها تل أبيب، ونفذتها على امتداد 2000 كيلومتر، لا بالتفاوض، بل بالقاذفات، لا بالأوراق، بل بالبوارج. في يونيو ذاته، تمركزت البحرية الإسرائيلية في جنوب البحر الأحمر، وأصبحت خطوط النار تمتد من ميناء الحديدة إلى مضيق هرمز، ومن مضيق باب المندب إلى صحراء النقب.

في معادلة الأمن الإقليمي، بدت طهران وكأنها فقدت زمام المبادرة، لم تعد كل بيادقها على رقعة الشطرنج، وكل شيء تهاوى، حتى سرديتها ومظلومية خطابها. ما كان يُفترض أنه من المحرمات بات مكشوفا ومفضوحا، فلا مرجعية، ولا إمامة. خامنئي فقد كل ما كان يمتلك من أدوات التأثير. حتى من يُفترض أنهم حلفاء – روسيا والصين – تركوا طهران تواجه مصيرها وحيدة، كما فعلت موسكو من قبل مع بغداد في عهد صدام حسين.

لقد انتهى زمن الممانعة، وانكسر المحور، ولم يعد من يتحدث عن الثورة الإسلامية يملك غير حطام الجغرافيا، وخطابات باهتة تُلقيها قيادات خائفة في مراسم التأبين. الردع لم يعد وهما،  لقد صار طائرات تحلق، وأسلحة تخترق، وحدودا يعاد رسمها بالدم. ومن لا يدرك هذه التحولات، سيكون أول من يدفع الثمن.

النظام لم يسقط لكن الرواية سقطت.. وإن أعلن الملالي اليوم انتصارا إلهيا فلا بد وأن يستذكر ما حصل لمن سبقه بذلك وما كان مصيره. فإسرائيل لا بد أنها تستخلص العبر والدروس من حربها الأولى مع إيران

بين الوعد الصادق والأسد الصاعد، ثمة حقيقة سيكتبها التاريخ السياسي للعالم، أن إيران خاضت حربا كبرى امتدت من 1979 وحتى 2025، حاولت خلالها إخضاع الشرق الأوسط لنفوذها السياسي. اعتمدت على “تخصيب عقول” الشعوب في مفاعلات الوهم، التي أعادت مجتمعات لبنان والعراق واليمن وسوريا إلى عصور الانقسام الطائفي والخراب، بينما عجزت عن أن تنجح في تخصيب اليورانيوم لتنتج قنبلة نووية تبتز بها العالم. لا وعدها صدق، ولا مشروعها صمد، ولا وكلاؤها انتصروا.

انكشفت الرواية، وسقط القناع عن وجه “الثورة الإسلامية” ليتبيّن أن ما سُوّق كتحرير هو في الحقيقة احتلال ناعم بأقنعة مذهبية. وبينما كانت إيران تستنزف شعوب المنطقة بخطابات المقاومة، كانت تُفرغ الداخل الإيراني من الكرامة والرفاه، وتستبدل الحلم القومي بهيمنة الحرس الثوري.

اليوم، تُدق طبول النهاية، ليس فقط لمشروع إقليمي فاشل، بل لمرحلة كاملة من التضليل الأيديولوجي، الذي طالما تخفّى خلف عباءة القدس، بينما كانت كل طرقه تؤدي إلى قم، وحتى اللحظة لا يعرف بعد كم هي التكلفة لصعود قطار السلام فما كان يطلق عليه سلام مجاني اليوم ثمنه باهظ وكم هناك منْ ندم على تأخره في صعود القطار.

ما عاشته طهران في الأشهر الأخيرة لم يكن مجرد سلسلة من الهزائم العسكرية، هذه ليست ضربة عسكرية فحسب… إنها ضربة في صميم الرواية، رواية بدأت بالثورة وانتهت بالسقوط الحر أمام شعب مُنهك، وواقع لا يرحم، وعالم ضاق ذرعا بالوهم.

ففي قصة دون كيخوته، يخرج الفارس الوهمي لمحاربة طواحين يظنها عمالقة، مدفوعا بوهم البطولة. هكذا كانت الحال مع مرشد الثورة الإسلامية الذي يطوي اليوم آخر صفحة من قصته الدونكيخوتية…

النظام لم يسقط لكن الرواية سقطت.. وإن أعلن الملالي اليوم انتصارا إلهيا فلا بد وأن يستذكر ما حصل لمن سبقه بذلك وما كان مصيره. فإسرائيل لا بد أنها تستخلص العبر والدروس من حربها الأولى مع إيران تماما كما حصل بعد العام 2006 في حربها مع حزب الله.

هذه الحرب قد لا تكون الأخيرة لكن الثابت والأكيد أنها رسمت قواعد اشتباك جديدة ومخاوف إسرائيلية من أن المارد الجريح وإن تعرض لهزيمة مؤلمة قد يستفيق مجددا بعد حين، خاصة وأن اليوم التالي في إيران لم يأت بما تشتهيه سفن إسرائيل… فالخداع الإستراتيجي قد ينضم إلى الصبر الإستراتيجي في رسم ملامح الانتقام القادم…

ليطفو التساؤل الأخير على خطوط الردع الجديدة… هل رممت أميركا صورتها أمام العالم بعودتها القوية إلى المسرح الشرق أوسطي لتملأ الفراغ؟ أم أن ترامب تحايل مؤقتا على لعنة الشرق الأوسط التي طاردت أسلافه؟

7