بيرنز مديرا للـ"سي.آي.أي".. اندماج الدبلوماسية مع عالم الأسرار

تحدد اختيارات الرئيس الأميركي جو بايدن للشخصيات التي ستتولى مناصب قيادية في أهم المؤسسات الأمنية والاستخباراتية في الولايات المتحدة طبيعة التحديات الداخلية والخارجية، وهي تعكس اهتمامه باستعادة عمل المؤسسات وهيبتها بعد موجة من الاتهامات لسلفه الجمهوري دونالد ترامب بتهميش أكبر وكالة مخابرات في العالم.
واشنطن - شكل اختيار الرئيس الأميركي جو بايدن للدبلوماسي المخضرم في الإدارات الأميركية السابقة ويليام بيرنز ليكون على رأس أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم، تحولا كبيرا في التعيينات في المناصب القيادية للمؤسسات الرسمية في الولايات المتحدة، والتي تحدد طبيعة السياسات الخارجية للبلاد.
بدأ بايدن عهده الرئاسي بسلسلة واسعة من التغييرات في القيادات السياسية والأمنية على حدّ السواء، ويسعى إلى العمل على قطع العلاقة مع سياسة خصمه الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، الذي ينظر إليه على أنه “طمر” عمل الأجهزة المختلفة للولايات المتحدة وقوّتها طوال السنوات الأربع الماضية.
جاء تعيين بيرنز، الذي عمل سابقا نائبا لوزير الخارجية وسفيرا في كل من روسيا والأردن، ليحدد طبيعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي ينوي بايدن انتهاجها خلال فترته الرئاسية، وتعدّ محددا أساسيا يمكن من خلاله قراءة طبيعة السيناريوهات الممكنة للتعامل مع قضايا مشتعلة وخلافية في مناطق مختلفة حول العالم.

دانيال كيرتزر وآرون ديفيد ميلر: اختيار بيرنز لقيادة وكالة المخابرات سيكون مكملا مفيدا لمن اختارهم بايدن لوزارة الخارجية والأمن القومي
وينظر الرئيس الأميركي الجديد، الذي استكمل اختيار فريقه لمجلس الأمن القومي، إلى وكالة المخابرات المركزية على أنها “لا بد أن تتجرّد من السياسة”، وأن تتولّى قيادتها شخصية مهنية لاستعادة لعب دورها الحيوي الذي تعتمد الولايات المتحدة عليه في اتخاذ قرارات مصيرية في أزمات داخلية وخارجية متعددة.
ويرى بايدن أن اختيار ويليام بيرنز نقطة أساسية في “عودة المهنيين إلى لعب أدوار قيادية” في المؤسسة الأمنية العريقة التي تأسست قبل نحو 74 عاما.
ولعبت الوكالة المخابراتية الأكبر في العالم أدوارا مختلفة منذ تأسيسها، ومهمتها الأساسية هي جمع المعلومات عبر عناصرها المنتشرة في السفارات الأميركية، وتقود الوكالة عمليات أمنية سرية مختلفة (تقليدية وغير تقليدية) ضد خصوم الولايات المتحدة.
ويقول الدبلوماسيان آرون ديفيد ميلر ودانيال كيرتزر، اللذان عملا مع بيرنز لعقود، إن اختياره على رأس وكالة المخابرات المركزية يعكس التزام بايدن بالدبلوماسية الجادة، وهو قرار يرفع من معنويات الدبلوماسيين الذين تعرضوا لسوء المعاملة والإساءة والتجاهل في ظل إدارة ترامب.
ويضيفان، في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية أن هذا الاختيار “يمكن أن يدفع مجتمع الاستخبارات للمزيد من الاهتمام بمهمته لجعل الاستخبارات في خدمة الدبلوماسية، والتي ستساعد الدبلوماسيين الأميركيين على التعامل مع مختلف القضايا قبل أن تتحول إلى أزمات”.
ويرى شق واسع من الجمهوريين والمنتقدين لتعيينات بايدن للمناصب الأمنية والسياسية على أنه يعيد المسؤولين الذين عملوا في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لتولي مناصب في إدارته الحالية.
ويعتقد هؤلاء أن سياسات بايدن لن تكون مختلفة عن سياسات أوباما المعتمدة في منطقة الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم. وبيرنز شغل مناصب مختلفة في الإدارات الأميركية السابقة سواء الجمهورية أو الديمقراطية، فقد عمل في الخارجية مع مادلين أولبرايت وكولن باول وكونداليزا رايس وهيلاري كلينتون وجون كيري.
مهمة استخباراتية أم دبلوماسية
يعد وليام بيرنز من دعاة تجديد الدبلوماسية الأميركية، التي عمل فيها طوال 33 عاما قبل تقاعده في العام 2014، وطرح ذلك الأمر من خلال كتابه “القناة الخلفية” الذي صدر في العام 2019. ويعتقد بيرنز أن حل المشكلات يعتمد بشكل أساسي على تحسين طرق جمع المعلومات الاستخبارية والبيانات.
وتواجه وكالة المخابرات المركزية الأميركية العديد من التحديات الخارجية في ضوء التفاعلات المتواصلة على صعيد الهجمات الإلكترونية أو الجماعات المتطرفة أو الميليشيات التي تنشط في العراق واليمن وسوريا وليبيا وتهدد مصالح الولايات المتحدة، لكن لا يعرف حتى اللحظة طبيعة “التغييرات” التي يمكن أن تحدث على صعيد العمل المخابراتي الأميركي الذي لا ينقطع عن تلك المناطق المشتعلة.
وتعتمد الإدارات الأميركية في العادة على التقارير الاستخباراتية لطبيعة الأنشطة التي تقوم بها الجماعات المتطرفة والمهددة للولايات المتحدة. وتتخذ القرارات السياسية في ضوء طبيعة تلك التقارير ومدى جدية تهديداتها للأمن القومي الأميركي.
ويرى آرون ديفيد ميلر، وهو محلل سابق في وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، ودانيال كيرتزر، السفير السابق للولايات المتحدة في مصر وإسرائيل، أن اختيار بيرنز لقيادة وكالة المخابرات “سيكون مكملا مفيدا لمن اختارهم بايدن لوزارة الخارجية والأمن القومي والذين سيعيدون تنشيط الدبلوماسية كأداة حاسمة للسلطة الوطنية”.
واختار بايدن كلاّ من أنتوني بلينكن لقيادة وزارة الخارجية، وجاك سوليفان كمستشار للأمن القومي، والجنرال لويد أوستين لوزارة الدفاع، حيث يهدف من هذه الاختيارات إلى القطيعة مع الماضي. وهؤلاء سيشكلون مجلس الأمن القومي الذي توكل إليه مهمة تقديم النصائح والمشورة للرئيس في تحديد السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ويقول الدبلوماسيان السابقان في تقريرهما إن “في حياتهما المهنية، شهدا مدى أهمية الاستخبارات في التعامل مع القضايا الدبلوماسية”، مشيران في الوقت نفسه إلى أن اختيار بيرنز وفريق الأمن القومي يظهر القيمة التي يوليها بايدن للخدمة العامة والخبرة.
ويرى ميلر وكيرتزر أن هذه الاختيارات “تشير إلى عودة مجموعة ملتزمة من الموظفين الموهوبين غير الأنانيين الذين يؤمنون بالمصلحة الوطنية غير المقيدة بالسياسات الداخلية أو الغرور أو المصالح الشخصية لفرد ما أو آراء أيّ حزب”.
ويضيفان أن “بيرنز هو أول موظف في الخدمة الخارجية يرشح لإدارة وكالة المخابرات المركزية في تاريخها الممتد على 74 سنة، فقد جاء المديرون السابقون للوكالة من الجيش والكونغرس ومن رتب وكالة المخابرات المركزية والطبقة السياسية”.
ويوضحان أنه في العادة تم استبعاد الدبلوماسيين من شغل منصب حساس في وكالة المخابرات المركزية “نظرا لتركيز الوكالة على العمليات السرية عكس طبيعة الدبلوماسية، بالإضافة إلى ثقافتها الضيقة والانعزالية، وهي سمة يشترك فيها السلك الخارجي”.
إرث كبير
وليام بيرنز يعد أحد مهندسي الحوار مع إيران وهو من مهد الطريق للتفاوض معها في عهد إدارة أوباما، ووصل إلى الاتفاق المثير للجدل حول برنامجها النووي عام 2015، والذي انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب في العام 2018.
وستكون المهمات المنتظرة لبيرنز معقدة ومليئة بجملة من التحديات على صعيد السياسة الخارجية وطريقة عمل الوكالة الأكبر في العالم. ويتوقع أن تكون مهمته كبيرة للغاية إلى جانب آفريل هينز مديرة الاستخبارات الوطنية في كل ما يتعلق بتركة الرئيس السابق المثقلة بالمشكلات والتحديات على حدّ السواء.
من هو ويليام بيرنز:

- من مواليد 11 أبريل 1956.
- حاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة أكسفورد.
- رئيس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
- تقاعد من العمل الدبلوماسي في العام 2014.
- نائب وزير خارجية الولايات المتحدة بين عامي 2011 و2014.
- عمل سفيرا لدى روسيا من 2005 إلى 2008.
- عمل مساعدا لوزير الخارجية بين عامي 2001 و2005.
- عمل سفيرا لدى الأردن من 1998 إلى 2001.
- يحتل أعلى رتبة في السلك الدبلوماسي الأميركي كسفير متمرس.
- يجيد الروسية والعربية والفرنسية.
ويقول ميلر وكيرتزر إن تعيين بيرنز وهينز يعكس تصميم بايدن على إزالة السموم من مجتمع الاستخبارات الذي تعرض لتلف شديد خلال إدارة ترامب والتأكّد من هيمنة المهنيين. وكان بايدن قد قال إن “بيرنز يشاركه إيمانه العميق بأن الذكاء يجب أن يكون غير سياسي”.
ويعتبر الدبلوماسيان السابقان أن “فريق بايدن للأمن القومي يشمل جميع اللاعبين الأساسيين الذين يحتاج إليهم، فهم مهنيون متمرسون ومتوازنون ومعتدلون وعقلانيون للدبلوماسية مثل بيرنز، قادرون على تقديم المعلومات الاستخباراتية الصادقة للرئيس المنتخب”.
ويجري الحديث في الولايات المتحدة بشكل أو بآخر حول إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني مع إجراء تحسينات عليه تراعي مصالح الحلفاء التقليديين لواشنطن. ولم تخف إدارة بايدن الجديدة قلقها من البرنامج الصاروخي الباليستي للنظام الإيراني، الذي يهدد أمن منطقة الشرق الأوسط واستقرارها.
ولا يعرف بعد طبيعة الطريق الدبلوماسي الذي ستتخذه الإدارة الجديدة في التعامل مع إيران أو غيرها في المنطقة، لكن بيرنز، الذي شغل رئاسة مركز كارنيغي للسلام الدولي، يرى أن “الاتفاق النووي مع إيران يُتيح للولايات المتحدة اتّخاذ تدابير ضد الحكومة الإيرانية على خلفية تجاوزات غير نووية”، وأنه “لا تضارب بين تطبيق الاتفاق النووي وإقرار إجراءات اقتصادية تستهدف منتهكي حقوق الإنسان في إيران”.
ويعتبر بيرنز أن الاتفاق مع طهران “لم يساهم في تحويل الاقتصاد الإيراني إلى قوة جبارة أو في تعزيز استقرار النظام، بل على العكس جرّد النظام من الحجة التي كان يسوّقها بأن الضغوط الخارجية وليس سوء الإدارة المزمن والفساد هي مصدر الظروف الاقتصادية البائسة التي يعاني منها معظم الإيرانيين”.
وتثار الكثير من الأسئلة في الولايات المتحدة والعالم بشأن عودة بايدن إلى أساليب أوباما في التعامل مع الملفات الحساسة والعاجلة في منطقة الشرق الأوسط، أم أنه سيتّبع إجراءات مختلفة تقطع مع الماضي القريب والبعيد، خاصة في التفاعلات الحاصلة في الأزمتين السورية والليبية ومستوى التهديدات الإيرانية المرتفع لأمن الجميع في الخليج العربي والمصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
ويرى الدبلوماسيان السابقان بشأن عمل الدبلوماسية لدعم العمل الاستخباراتي أن “بيرنز يتفهم ما يحتاج صانعو السياسة إلى معرفته لمساعدتهم على اتخاذ قرارات ذكية في السياسة الخارجية بفضل خبرته الواسعة”.
وقالا إنهما يستطيعان الجزم بأن “بيرنز لن يختار المعلومات الاستخباراتية التي تروقه لدعم سياسة مّا بينما يتجاهل أخرى من شأنها أن تقوّض اهتماماته. وستكون تقييمات وكالة المخابرات المركزية غير مقيدة بمثل هذه الأجندات”.