بيركامب كان على حق

انتقل إيميليانو سالا من لاعب مغمور يحاول تسلق السلم خطوة بعد أخرى إلى نجم للأخبار الرياضية طيلة الأيام الأخيرة.
كان لاعبا لا يعرفه الجميع بما أنه نشط في نادي نانت الفرنسي لبعض المواسم قبل أن يوقع عقدا مع نادي كارديف سيتي الإنكليزي خلال هذا الميركاتو. لكن.. كان يتوقع أن تغدو هذه الخطوة الجديدة قفزة هائلة تحيله إلى عالم جديد أكثر نجاحا وانفتاحا، لكن؟
كان يمني النفس بأن ينطلق نحو فضاء أرحب ويصبح بمقدوره أن ينافس من أجل اللعب يوما ما مع منتخب بلاده الأرجنتين وربما ينتقل إلى فريق أكثر قوة وشهرة من كارديف. كان يمنّي النفس بأن تكون رحلته مساء الأحد الماضي من فرنسا إلى إنكلترا تشبه رحلة المستكشفين القدامى الذين خلّدهم التاريخ إلى اليوم. لكن هذه الرحلة تحولت من رحلة نحو الحياة الجديدة إلى رحلة نحو المجهول، نحو الموت الكامن في أعماق البحر.
إيميليانو استقل الأحد الماضي طائرة خاصة تابعة لرئيس كارديف سيتي، كان بصدد التوجه إلى مقر ناديه وهو يتأهب إلى أن يبدأ الاثنين الماضي التدرّب مع فريقه الجديد. لم يكن يدر في خلده أن هذه الرحلة المشؤومة هي الأخيرة في حياته، بل كانت تقوده نحو الهلاك والمصير الغامض.
غابت الطائرة فجأة عن شاشات الرادار، لم يعد لها أي وجود في الأفق، يبدو أن هذه الطائرة المتهالكة أصابها عطل طارئ ومصاب جلل لتتهاوى بسرعة البرق.
تجنّدت فرق التفتيش طيلة 80 ساعة للبحث عن خيط رفيع من الأمل، لكن هيهات، فالأمل الضعيف تحول إلى حلم معدوم بعد مرور أكثر من أربعة أيام. هيهات فسالا هذا اللاعب الشاب الطامح لخوض تجربة مغرية، تحول إلى مجرد رقم ينضاف إلى سلسلة كوارث جوية ضربت على امتداد عقود بعض نجوم اللعبة عبر شتى أصقاع العالم.
هذه الحوادث اللعينة لا تفرّق أبدا عندما تختار ضحيتها. هي لا تمهل ولا تهمل أبدا. تترصد كل عطل أو خطأ لتنقض بسرعة وتبعث بضحاياها المساكين دون سابق إنذار.
بدأ “جنون” الرحلات الجوية المشؤومة باكرا، حيث ضرب بقوة سنة 1949 بعد أن تحطمت الطائرة التي كانت تقل فريق تورينو العائد من البرتغال. مات جميع لاعبي الفريق الذي كان في تلك الفترة من أقوى الفرق في إيطاليا وأوروبا.
مرت سنوات قليلة لتحصل أشهر فاجعة في تاريخ الكرة العالمية حيث تحطمت طائرة كانت تقل بعثة فريق مانشستر يونايتد عائدة من مدينة ميونيخ الألمانية، فذهب ثمانية لاعبين ضحية هذا الحادث الأليم.
وفي بداية التسعينات من القرن الماضي كانت بعثة المنتخب الزامبي، الذي كان يمني النفس بالتأهل لأول مرة في تاريخه للمونديال، متوجهة لخوض مباراة هامة ضمن التصفيات، لكن “جنون” الكوارث الجوية اغتال الحلم الزامبي بعد أن سقطت الطائرة وأصابت كل ركابها من أعضاء هذا المنتخب بمقتل.
مرت السنوات ولم تنقطع أخبار الفواجع التي تضرر منها نجوم الكرة. فقبل أقل من ثلاث سنوات شهدت البرازيل إحدى أسوأ الكوارث الجوية بعد أن تحطمت طائرة كانت تقل لاعبي فريق شابيكوينزي المتأهب لخوض مباراة نهائي “كوبا سود أميركانا” وتوفي أغلب لاعبي الفريق.
وتواصل مسلسل الكوارث إلى ما لا نهاية، فمنذ أشهر قليلة ودع مالك نادي ليستر سيتي الإنكليزي رجل الأعمال الماليزي الدنيا بعد أن سقطت طائرته الخاصة لحظات بعد مغادرتها ملعب النادي.
وفي خضم هذه الأحداث المأسوية تذكرت لاعبا سابقا كان ينشط مع نادي أرسنال والمنتخب الهولندي، الحديث هنا يخص دينيس بيركامب الذي كان يعاني من “رهاب” الطائرات.
تصوروا أن هذا اللاعب الذي يخشى السفر عبر الجو كان يضطر للسفر بين العواصم والمدن الأوروبية لساعات طويلة عبر السيارات والقطارات وكذلك الحافلات لخوض المباريات الأوروبية مع فريقه أو منتخب بلاده، فالمهم لديه ألاّ يصعد على متن الطائرة.
كان يخاف كثيرا ويخشى أن يحدث له مكروه عندما تقلع الطائرة. لم يستسغ فكرة التحليق عاليا في الفضاء. كان يصرح للمقربين منه بأن الطائرة غادرة ولا أحد يقدر على التوقي من شرورها.
كانت في نظره مركبة “مجنونة” مرعبة تقدر في غفلة أن تحيل رحلة حياة عادية إلى رحلة موت أبدية. لقد خشي على حياته ورفض الركوب نحو المجهول فنجا، وواصل عيشه هائنا في أمستردام بعد أن اعتزل منذ سنوات طويلة، لكن ماذا كان بمقدور سالا هذا اللاعب غير المحظوظ أن يفعل؟
هل كان يتوجب عليه رفض ركوب الطائرة الخاصة ويستقل وسيلة نقل أخرى؟ بالتأكيد لم تكن أمامه أي فكرة عما ينتظره عندما ولج هذه الطائرة الملعونة. لم يكن يعلم أنه سيكون على موعد مع لحظاته القصيرة الأخيرة.
بيد أن الأقسى والأكثر تأثيرا من ذلك أن سالا البائس تعاظمت عليه الأمور عندما شرعت الطائرة في التحليق. لقد تواصل مع بعض أصدقائه حينها قائلا إن الطائرة ليست آمنة، فالطائرة لم تكن مؤمنة بالشكل المطلوب.
كانت لحظات فارقة عبثت بكل شيء، لحظات تحولت خلالها الطائرة إلى وحش كاسر غادر فأردت اللاعب مفقودا في غياهب البحار، اغتالت الحلم الجميل، وربما أكدت أيضا أن بيركامب كان على حق.