بيت المتنبي في حلب يعود متحفا يؤرخ للأدب

الشاعر أبوالطيب المتنبي لم يمت في ذاكرة العرب لما تركه من زاد شعري لا يزال يستهوي عشاق الأدب والثقافة، ويدرّس في المعاهد الثانوية والجامعات، كما لا يمكن أن يمر أي مبدع لمرتبة شاعر دون أن يحفظ نصيبا مما تركه المتنبي من إبداع، وبعد أن حطت الحرب رحاها يعود بيت المتنبي متحفا يضم العديد من الفعاليات المختصة بأدبه وحياته.
حلب (سوريا)- كان الهاجس، معرفة مصير متحف المتنبي في مدينة حلب، الذي سيقام على أنقاض بيته، بعد أن تم التوصل إليه بعد المئات من السنين وجهود العشرات من الباحثين والمؤرخين عبر سنوات طوال. وبعد أن حلت بالمكان حرب ضروس حطمت البشر والحجر، وبحكم الدمار الذي آلت إليه في شطرها القديم، تغيرت ملامح المدينة.
مشكلة في الوصول للمكان وسط دمار المباني تجبر الزائرين على البحث عمن يدلهم عن منطقة خان الوزير، وهو المكان الذي يضم مكان البيت الأصلي الذي عاش فيه المتنبي، وهو بيت يجهله حتى من يعيش في المنطقة.
بائع بسيط يعيش هناك منذ أربعين سنة لم يتعرف على البيت إلا بعد ذكر الأسماء القديمة للمكان، كالمدرسة الصلاحية والبهائية تعرّف عليه، المفاجأة أنه كان يتكئ على جدار خان الوزير الذي يكون بابه مقفلا في العادة فناء الخان كبير، تتوزع حوله غرف كثيرة مختلفة الأحجام وفي الأسفل غرفة تتوسط باحة كبيرة، مهملة.
المكان يحيل الزائر على موضع بيت الشاعر المتنبي من القلعة، كيف كان يراها من أول خروجه من بيته وفي أي زاوية لكي يصل للأمير سيف الدولة، بعد التجول في المنطقة يستطيع الزائر أن يكتشف أن المسافة ليست إلا مئات الأمتار لا تتجاوز مقدار خمس دقائق، مما يؤكد أن المتنبي قريب وحاضر في حياة الدولة الحمدانية كلها.
لم يعرف شاعر عربي المجد والسلطة الأدبية، كما كانا للشاعر أبي الطيب المتنبي، لما أمتلكه من موهبة شعرية خارقة وطباع خاصة. المتنبي، الشاعر الذي احتفى به التاريخ، فكتب قصائده التي ظلت في وجدان الناس حتى الآن، ورغم مرور ما يقارب الألف عام، فهو ما يزال حاضرا في سهرات الناس وندواتهم وكتبهم ومدارسهم وأعمالهم الفنية.
فترة العطاء الشعري للمتنبي، كانت في مدينة حلب، واستمرت ما يقارب العشر سنين. نزل فيها عند سيف الدولة الحمداني. فتن سيف الدولة بأدب المتنبي، فنال عنده الرعاية والحظوة، وأنزله في مكان قريب منه، إلى أن غادر البيت والمدينة بعد سنوات.
ضاع موضع بيت المتنبي بفعل الزمن، وكذلك بسبب الحروب والزلازل، وبنيت فوق آثاره أبنية جديدة، لكن الباحثين في التراث الأدبي للمدينة استطاعوا بعد جهد كبير أن يحددوا موضع هذا البيت وليس ذاته، كونه قد هدم وعمّر مرارا.
يقول الباحث كمال الدين بن العديم، وهو أحد تلامذة ابن عساكر، المؤرخ الشهير، وقد كتب في تاريخ حلب مؤلفين ضخمين هما “بغية الطلب في تاريخ حلب” و”زبدة الحلب من تاريخ حلب”.
الكتاب الأول كان مفقودا، إلى أن وجد حديثا في مكتبة بالهند، فنشر بعد أن حققه المؤرخ الشهير سهيل زكار، فيه أفرد ابن عساكر فصلا كبيرا عن المتنبي منذ أن دخل المدينة ضيفا على سيف الدولة.
وفي هذا الجانب كتب، “أن المتنبي عندما أقام في حلب عام 337 للهجرة منحه سيف الدولة بيتا بجوار بيوتنا في منطقة أدوار بني كسرى”. هذه الجملة كانت كافية لدى الباحث في التاريخ محمد قجة، لأن يتابع الموضوع في تفاصيل غاية في الدقة حتى الوصول للنتيجة الكبيرة.
يقول قجة للـ”العرب” من مكتبه بجمعية العاديات في شارع معاوية في حلب، “بمجرد معرفتي لهذه المعلومة، توجهت لمعرفة المزيد من التفاصيل، وواجهت مصاعب كبيرة في البداية، لأن هذه الأسماء لم تعد موجودة، كما أن معالم البناء قد تغيّرت”.
ويضيف رغم حالته الصحية المضطربة، “انطلقت من معلومة البحث عن بيوت آل العديم وآل كسرى. وقد اتضح لي أن هذا المكان قد صار خانقاه باسم سعدالدين كمشتكين بمعنى مضافة للفقراء والغرباء، وكان هذا رائجا في فترة حكم نورالدين زنكي”.
ويشرح رحلة بحثه عن بيت المتنبي، “ولكي نحدد مكان الخانقاه تماما، عدنا لدراسة الأعلام في تلك الفترة، فتبين لنا أن كمشتكين هذا، كان أتابك بنت السلطان عمادالدين زنكي، ومقرب من نورالدين زنكي، وكان وصيا على العرش لفترة”.
ويضيف، “ومن خلال البحث في العديد من تراجم الشخصيات الحلبية حينها، وصلت إلى أن الخانقاه قد تهدمت لاحقا. وفي عام 1266 م اجتاح هولاكو حلب فدمر المنطقة، ثم كانت الفترة المملوكية، وفيها اشترى البيت الأمير صلاح الدين الداوادار، في أواسط القرن الثامن الهجري، وأعاد بناء البيت، ثم نقل الأمير إلى طرابلس، فأوقف البيت وجعله مدرسة لتعليم الشرع الإسلامي، لذلك سميت بالمدرسة الصلاحية، وبقيت المدرسة إلى أن هدمها اجتياح تيمورلنك للمدينة عام 1400 م فدمرت المنطقة تماما، ثم أعاد بناء المكان الأمير خاير بك، آخر أمراء حلب في الفترة المملوكية قبل الحكم العثماني الذي بدأ في 1516”.
يقول قجة، “العثمانيون أخذوا المدرسة الصلاحية وجعلوها محكمة شرعية وجامعا صغيرا، إلى أن جاء زلزال عام 1822، فدمر المنطقة بشكل شبه كامل، ثم جاء أحد الرجال يدعى بهاءالدين القدسي، وأخذ المكان وبنى فيه مدرسة سميت، المدرسة البهائية، وما تزال تحمل ذات الاسم للوقت الحالي”.
من يزور مدينة حلب القديمة الآن، في نهايات عام 2018، سيدهش لحجم الدمار الذي أصابها، فكثير من المباني سويت بالأرض، ولكن رغم ذلك، لا تزال أجزاء منها تنبض بالحياة، ولا تزال تعيش على وقع الحياة اليومي.
وربما من حسن حظ الأدب العربي والعالمي أن تكون منطقة خان الوزير ومنها سويقة علي بعيدتين عن الهدم. فما زال الخان الذي يحتضن بيت المتنبي واقفا شامخا، يردد شعر المتنبي.
بيت المتنبي الذي كان من المفترض أن يتحول إلى متحف يضم العديد من الفعاليات المختصة بأدبه وحياته قبل سنوات، توقف عن التنفيذ بسبب الحرب الضروس التي حلت بالمدينة على امتداد ما يقارب الثماني سنوات.
يؤكد محمد القجة، “أن المشروع عاد للحياة من جديد، ونحن في وزارة الثقافة في سوريا نعمل على إتمام العمل عليه الآن، وسوف يكون جاهزا تماما خلال سنتين من الآن، هنالك لجان تعمل ليل نهار، وفنانون وباحثون، وسوف يكون متحفا يليق بمكانة هذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس″. ويعرض الباحث قجة في مكتبه تمثالا للمتنبي سيكون في المتحف عند إتمامه. ليس غريبا، أن يحظى شاعر كالمتنبي، بمكانين هامين في مدينتين عربيتين هامتين هما، بغداد وحلب.
ففي بغداد، يوجد شارع، حمل اسم المتنبي، يرتاده أصحاب الفكر والأدب والسياسة ليتعرفوا على آخر ما تقدمه لهم دور النشر العراقية والعربية من كتب في شتى المجالات وكذلك بحثا عن مخطوطات أو كتب قديمة، يجدونها في مكتبات قديمة متناثرة في السوق. وفي حلب، سيكون له متحف في المكان الذي سكن فيه طوال عشر سنين شكّلت أهم ما كانت في سنوات إبداعه الشعري.