بولت يطير من جديد
هو الفتى الطائر الذي عجز كل “المحاربين” عن الإطاحة به وإسقاطه من عرشه عالي المقام، هو العداء الذي أسقط كل النظريات القديمة وفاقت إنجازاته وأرقامه القياسية كل التوقعات والتكهنات، هو بكل بساطة العداء الأسرع والأقوى على المستوى العالم بأسره الجامايكي أوسين بولت.
خلال بطولة العالم لألعاب القوى المقامة حاليا بالعاصمة الصينية بكين، لم يكذب بولت صاحب التسعة والعشرين عاما الانتظارات، فانقض بسهولة وثقة بالنفس على ذهبيتي سباقي 100 و200 متر، وأضاف إليها أمس السبت ميدالية 400 متر تتابع مع الفريق الجامايكي، ولم يترك الفرصة لأيّ من منافسيه كي يزيحوه من العرش الذي تربّع عليه منذ سنة 2008 خلال أولمبياد بكين الشهير.
وبهذا يكون بولت قد فاز باللقب الحادي عشر له في بطولة العالم، كما فاز بثلاث ميداليات ذهبية خلال بطولة كبرى واحدة للمرة الخامسة في مسيرته.
بولت أثبت للجميع أنه أحد أفضل الرياضيين على مدى التاريخ، إذ حقق أرقاما وبطولات وميداليات قد يعجز البعض عن حصرها وإحصائها، والأهمّ من ذلك أنه قاد بلده الجاماييك إلى افتكاك الزعامة على مستوى سباقات السرعة من الولايات المتحدة الأميركية على امتداد عشرية كاملة.
وفي زمن تسود خلاله أخبار لاعبي كرة القدم الذين يسيطرون على الصورة والأخبار، فإن بولت الموهوب اختار لنفسه بفضل إنجازاته الرائعة والتاريخية مكانا دافئا وآمنا تحت “الشمس”، إذ لا يكاد أحد من المتابعين للشأن الرياضي في العالم لا يعرف بولت “المجنون” بانطلاقاته الرهيبة في السباقات الكبرى واحتفالاته الممتعة بعد كل فوز ونصر عظيم، ولو كتب لبولت أن يكون لاعب كرة قدم لكان في مكانة ميسي ورونالدو وبات الرياضي الأفضل في العالم.
ومع ذلك فلكل قصة بطل موهوب ومتفرد بداية متفردة، فهذا الفتى الجامايكي أبهر الجميع في موطنه بموهبته في سباقات السرعة، إذ فرض سيطرته المطلقة محليا ما جعل مدرّبيه يقرّرون منحه كل الوقت كي يطوّرون هذه الموهبة التي برزت بشكل لافت على مستوى العالم في سن الخامسة عشرة.
ففي بطولة العالم للناشئين سنة 2002 قدّم بولت أوراق اعتماده كنجم جديد لا يشق له غبار، حيث تألق بشكل رائع وتوج بالميداليات والألقاب، ولفت اهتمام جميع المتابعين لأخبار ألعاب القوى في العالم.
تتويج بعد تتويج ونجاح يتلوه نجاح أكبر، لتكبر الطموحات والأحلام، ويصل البطل الواعد إلى قمة المجد ويعتلي عرشه عالي المقام في أولمبياد 2008، حيث لم يخيب آمال محبيه وأنصاره في الجاماييك ليتفوّق على نجوم العالم وينتزع ذهبية أقوى وأشرس سباق في منافسات ألعاب القوى أي سباق 100 متر.
بعد ذلك راهن البعض على سقوط محتمل لهذا العداء الأسطوري، بما أنه من الصعب للغاية على أيّ عدّاء مختص في مسافات السرعة أن يحافظ على ثباته ومستواه المرموق لمدة طويلة، بيد أن بولت أسقط هذه الرهانات، فرغم أنه عانى في بعض الفترات من الإصابات، إلاّ أنه يعود في كل مناسبة أقوى وأكثر إصرارا ويدافع عن ألقابه وميدالياته سواء في بطولات العالم أو الألعاب الأولمبية.
فالعداء الجامايكي فرض سيطرته في دورات بطولة العالم سنوات 2009 ثم 2013 ثم 2015، وتوج بالمعدن النفيس في سباقي 100 و200 متر، وفعل الأمر ذاته في أولمبياد لندن 2012 الذي حافظ خلاله على لقبه الأولمبي دون أن يجد أي منافس قوي بمقدوره تهديد مكانه الأول.
وفي بطولة العالم الحالية واصل أمس هذا العداء المراهنة على الألقاب، فنافس مع المنتخب الجامايكي على لقب سباق 400 متر تتابع، وبوجود بولت الطائر حلق المنتخب الجامايكي عاليا متفوقا على كل منافسيه، ليصبح بفضل الفتى الموهوب معروفا وقويا ومنافسا لا يقهر.
فموهبة بولت وعبقريته ألهمتا كافة العدائين في بلاده، إلى درجة أن الجميع بات يحلم بأن يسير على منوال العداء الأفضل في العالم، والأكثر من ذلك أن نجاحاته زادت في شعبية هذه الرياضة في الجاماييك وباتت ألعاب القوى تحظى باهتمام متزايد من قبل المسؤولين في هذه البلاد.
هي تجربة رائعة ومسيرة واثقة لبطل قد لا يجود به الزمان قريبا، فتألّق بولت غطى على كل الإنجازات السابقة لأبطال هذه الرياضة، وكل ما فعله العداؤون العالميون في السابق مثل كارل لويس ومايكل جونسون وجبريسيلاسي وبوبكا والكروج، ولا يكفيه اليوم سوى انتظار أولمبياد 2016 في ريو دي جانيرو البرازيلي حتى يتمكن من افتكاك المركز الأول من كارل لويس على مستوى عدد الميداليات الأولمبية. فذهبية واحدة ستكون كافية كي يتوج بولت نفسه ملكا أوحد في ألعاب القوى العالمية على امتداد التاريخ، ولن يقدر أيّ عداء في المستقبل القريب على السير على منواله.
كاتب صحفي تونسي