بوعبدالله غلام الله مهندس المنظومة الدينية الجزائرية

مفكر إسلامي يرى أن للمسجد مكانة في الدولة الحديثة.
السبت 2022/09/17
شخصية ديناميكية قادرة على الاستثمار في المساحات الفارغة

هل يمكن أن تتجسد المتناقضات المتصادمة في شخصية رجل واحد؟ وهل يستطيع هذا الشخص أن يتعايش مع المتصادمات وهو منخرط في أتون ما تبقى من نموذج الدولة الوطنية؟ وكيف يمكن أن يغامر بإحلال التعايش بين الذهنية الدينية والعقلية الإدارية في منظومة تقليدية معقدة فكريا ومتشابكة اجتماعيا ومتنازعة تاريخيا؟ هي بعض الأسئلة التي يتناوشها مثقفون متابعون لموضوع طبيعة النخب في الجزائر، وهي الأسئلة التي تلازم شخصية لا تزال غير خاضعة للدراسة ومؤجلة في الاهتمام العلمي، بالرغم من تأثيرها الواسع وأثرها المتشعب وتراثها الكبير.

هنا تكون تجربة هذه الأسئلة مع الشيخ بوعبدالله غلام الله الذي كان أول من بارك الحراك الشعبي وهو في منصبه الرسمي، ولكنه أصرّ على التمسك بالدفاع عن الدولة. هي خطوات لا تزال في بدايتها ضمن مقاربة أوسع لقراءة النخب الجزائرية، وبالذات في زمن نهاية ظل الدولة الوطنية، وبعد مرحلة جديدة من مسيرة المجتمع.

من يقرأ كتاب "قصة جامع الجزائر" تنكشف أمامه الرؤية الإستراتيجية لـ"المسجد" ودوره في حياة الناس ضمن نسق الدولة الحديثة، بالرغم من أن بديهية العصر الحديث تؤكد وقوع التصادم بين الذهنية الدينية والعقلية الإدارية، ولكن الرؤية التي يتبناها الشيخ غلام الله تتجاوز هذه البديهية، وهي التي كانت وراء قيامه بإعادة الصياغة القانونية والإدارية والتنظيمية وحتى الوظيفية للمسجد وإدراجه في أجهزة الدولة وفق طبيعتها وخصوصيتها الجزائرية.

قصة الجامع

غلام الله يتمتع بشبكة واسعة من العلاقات، لقدرته على تحقيق التوازن بين الأطراف مختلفة المشارب والاتجاهات
◙ غلام الله يتمتع بشبكة واسعة من العلاقات، لقدرته على تحقيق التوازن بين الأطراف مختلفة المشارب والاتجاهات

ومنذ وصوله إلى وزارة الشؤون الدينية كانت المنظومة الدينية في الجزائر تؤطرها بعض المراسيم التنظيمية فقط، وأغلبها منتوج أمزجة عاطفية وانطباعات شخصية خاضعة لميول الأفراد. إلا أن صدمة مواجهة الإرهاب الذي سحب البساط من تحت أقدام الدولة في بداية التسعينات من القرن الماضي وقبلها استيلاء جماعات التيار الديني على الفضاء الاجتماعي دفعا الرجل إلى شروعه في إنتاج القوانين وإخضاع المنظومة الدينية لمنطقها، وهو ما جعلها تستعيد المبادرة وتسترجع دورها، الأمر الذي جعله يمتلك خيوط الكواليس وينسج هذه الخيوط فيما بعد، مستعينا بقوة المرأة عندما أدخل النساء، عبر حيلة قانونية، إلى المنظومة الدينية من خلال جهاز المرشدات، وإن كان لا يخفي في العديد من المناسبات تضحيات كبيرة وصراعات دامية خاضها في بناء مشروع عقلنة المنظومة الدينية وتخليصها من مزاجية أهلها وتوجس خصومها.

من يقرأ كتاب "قصة جامع الجزائر" تنكشف أمامه الرؤية الإستراتيجية لـ"المسجد" ودوره في حياة الناس ضمن نسق الدولة الحديثة

كما يكشف الكتاب ملامح مشروع عقلنة المنظومة الدينية، ليس من الجانب التنظيمي الإداري، وإنما يذهب نحو إماطة اللثام عن المخطط الهيكلي العمراني للمنظومة الدينية عبر مفصل "المساجد الأقطاب" التي تهيمن على الفضاء الاجتماعي وتستوعب الميول الدينية وتتوسع نحو الهيمنة الثقافية للمجتمع، لتستكمل خطوات المشروع بجامع الجزائر، ذي الاستهداف السياسي وليس البعد التعبدي، والمراد منه أن يضاهي في دوره الأزهر الشافعي والحوزة الجعفرية، ويتجاوز القيروان والقرويين المالكيين.

تقول الوثائق الرسمية إن غلام الله وهو في منصب رسمي، وزيرا، خاض معركة شرسة في بداية الألفية ضد ما سمي بمشروع “إصلاح المدرسة” الذي تم التراجع عنه بعد عشريتين من انطلاقه. وفي بعض تصريحاته يرفض الرجل الإدعاءات بأنه عارض هذا المشروع من منطلقات شخصية، ولكنه يرافع عن موقفه بكون المشروع غير متجانس في ذاته وهو متناقض مع القواعد العلمية والفلسفية التعليمية ويتعارض مع أسس المجتمع.

ولكن المتابعين لموقفه يرجعون منطلقات هذا الموقف إلى خلفيته المهنية وتفكيره الفلسفي وانتمائه إلى أثقال تراث الثورة التحريرية، كما أنه محاصر بتلك التطلعات الكبرى التي صاغت أجيالا بكاملها من خلال مشاريع الدولة الوطنية في بداية الاستقلال بدءا من مشاريع إجبارية ومجانية التعليم مرورا بملف التعريب، وصولا إلى الحداثة في نظر صناع القرار في الدولة الوطنية، المدرسة الأساسية، وهي نفس التطلعات والمشاعر التي ساهمت في إسقاط مشروع إصلاح المدرسة الذي انخرطت في رفضه حتى التيارات العلمانية التي انقلبت على مواقفها السابقة، لتأتي مواقف التيارات المحافظة داعمة ومساندة بعد قرابة عشريّتيْن من الزمن.

من يعرف غلام الله يعرف خلفيته الفكرية والعلمية التي لا يحصرها البعض في ثنائية المعرفة الفلسفية والغنوصية الصوفية. إلا أن الرجل أكد أنه يمتلك ميولا اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية هي أقرب إلى تفكير وطروحات المصلح الشيخ محمد عبده. فميله إلى علم الاجتماع وتفطنه لدور الاقتصاد في بناء المجتمع جعلاه يؤسس أول جهاز حديث في الجزائر لصندوق الزكاة، والذي تبقى حكاية صراعات ميلاده من الملفات المنسية أوراقها في دهاليز النسيان.

مشروع جديد

ميوله الاقتصادية ذات أبعاد اجتماعية أقرب إلى تفكير المصلح محمد عبده وطروحاته
◙ ميوله الاقتصادية ذات أبعاد اجتماعية أقرب إلى تفكير المصلح محمد عبده وطروحاته

ويبدو أن الرجل مكنته علاقاته الدولية من الإطلاع على التجارب الناجحة في هذا المجال فأعاد بلورتها في مشروع أطلقه وهو وزير، ولعلّه تمكن من تحقيق الكثير من الخطوات الناجحة بعد صعوبات صادمة يذكر بعضها عابرا في مناسبات قريبة، فإلى جانب جهاز استثمار الزكاة أصر على ملازمة الوقف له، ذاهبا تحت سطوة خلفيته الفلسفية نحو تجسيد معنى من معاني الحرية الاجتماعية كونه يعتبر إعادة إحياء الوقف وتفعيله هو التنزيل الواقعي لتحرير السابقين “الأموات” من الاستعمار عبر الأجيال الجديدة من الأحياء باستعادة الوقف ونقله إلى جهاز اقتصادي ذي أبعاد اجتماعية تنموية، وتحريره من الطلاسم الفقهية الكلاسيكية.

ويبدو أن طموحات الرجل أكبر من عوائق تغيير سرج المناصب، واستهواؤه لإحداث الجديد غير المسبوق جعله يؤسس لمشروع جديد في نفس السياق؛ فبمجرد توليه منصب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى سارع إلى مباشرة تأسيس مشروع الصيرفة الإسلامية لأول مرة في الجزائر.

◙ خيوط الكواليس يمتلكها غلام الله وينسجها لاحقاً، كما حين استعان بقوة المرأة عندما أدخل النساء، عبر حيلة قانونية، إلى المنظومة الدينية من خلال جهاز المرشدات

وعلى المستوى الدولي يتمتع غلام الله بشبكة واسعة من العلاقات تجعله مثار اهتمام من خلال قدرته على تحقيق التوازن بين الأطراف مختلفة المشارب والاتجاهات المتناقضة في أغلب الأحيان؛ فهو عضو مجموعة الرؤية الإستراتيجية "روسيا - العالم الإسلامي"، وله العديد من الاقتراحات في طبيعة عملها يعلنها في اجتماعاتها الدورية.

كما أن علاقته بدار الإفتاء المصرية متينة، وهو منخرط في مؤسسة آل البيت الهاشمية الأردنية التي احتفت به في العديد من المناسبات، وفي نفس الوقت كان له حضور متميز في نشاطات رابطة العالم الإسلامي في السعودية، دون أن يغيب عن دورات المؤتمر الدولي للوحدة الإسلامية في طهران، ومن الموقعين على ميثاق العيش المشترك في الإمارات، دون أن تخفى لمساته في مناسبات الفاتيكان، مما يدفع البعض إلى الرفع من منسوب دبلوماسيته التي تمكنه من التعايش بأريحية وسط التناقضات الدولية.

لا يترك غلام الله مناسبة إلا وأبان فيها تمسكه بتاريخ الجزائر والإشادة بمكانتها والتنويه باستثنائية الثورة التحريرية، دون أن تغيب عنه الدولة واستلهام قيمها وضرورة استمرارية مثلها العليا. فالرجل مجاهد ممن عايش الاستعمار الفرنسي ولقى من شروره الكثير اعتقالا وتشردا ومطاردة ومضايقة، مما يجعل من الظلم الاستعماري حاضرا في سلوكاته وكتاباته وتصريحاته التي في غالب الأحيان يفاجئ بها المشهد الإعلامي، بإشارات غائرة في استعادة الذاكرة المستضعفة، إلى درجة تحقيق تلك اليوتوبيات القائلة بتعايش منسجم بين الوطنية بمفهومها الأرضي الوجودي والدين بمعانيه السماوية المتعالية.

صوفي حاضر في المحافل

من يتابع تحركات غلام الله وحضوره في مختلف المناسبات ينتابه شعور الاستثناء من تلك التلبية التي يسارع بها نحو مختلف المناخات
◙ من يتابع تحركات غلام الله وحضوره في مختلف المناسبات ينتابه شعور الاستثناء من تلك التلبية التي يسارع بها نحو مختلف المناخات

من يتابع تحركات غلام الله وحضوره في مختلف المناسبات ينتابه شعور الاستثناء من تلك التلبية التي يسارع بها نحو مختلف المناخات، فبالرغم من انتمائه الأصلي إلى المنظومة الصوفية إلا أن الرجل حاضر في المحافل

الأخرى من مختلف الاتجاهات والأفكار والتنظيمات مع أريحية كاملة دون أن تظهر الحواجز الفكرية أو النفسية، وهو ما يجعله مستندا. كما يفسر البعض هذا السلوك بالبراغماتية الفلسفية التي نشأ عليها والتي تجعله يتجاوز عوائق تراكمات الماضي.

ولا يمل غلام الله من المرافعة عن شعار يتبناه ويسميه "المنصب والإنجاز"؛ فالمقربون منه ومن سبق أن عمل معه في مختلف المناصب، يؤكدون أن الرجل إداري من الطراز الرفيع، فهو ينتمي إلى البيروقراطية الكلاسيكية وترك بصمته في كل المناصب التي تولاها.

◙ غلام الله يميط اللثام عن المخطط الهيكلي العمراني للمنظومة الدينية عبر تبيينه لـ"المساجد الأقطاب" التي تهيمن على الفضاء الاجتماعي وتستوعب الميول الدينية 

ولئن كان بعض هؤلاء يعبّر عن عطالة تريثه وتثاقل تحركاته الإدارية، إلا أن البعض الآخر يحصي إنجازاته الكثيرة التي تمكن من خلالها من إحداث فرق واسع بينه وبين من سبقه إلى المنصب وترك إرثا ثقيلا لمن خلفه.

ويقول إن المنصب الإداري "لم يطلبه يوما"، وهو لا يخرجه من دائرة بيروقراطية الدولة، إذ سرعان ما كشف عن رؤيته هنا وبالذات في كتابه "الروح المعنوية والإنتاجية"، الذي أخذ منه سنوات في التوفيق بين مختلف المدارس الفلسفية والتقريب بين النظريات الاجتماعية والنفسية والاتجاهات الاقتصادية، لتكون نتائج بحثه قواعد منهجية سار عليها في عمله ضمن مختلف المناصب التي تولاها أو المهام التي أدارها.

 كما يكشف كتاب "الروح المعنوية" أنه لم يكن بحثا نظريا أو جهدا فكرية بل هو أقرب إلى خطة عمل نسجها الرجل في بداية حياته وبالذات في بداية السبعينات من القرن الماضي، وهو المخطط الذي جعله فيما بعد يمتلك ديناميكية وقدرة على الاستثمار في المساحات الفارغة فيستغلها للقيام بما يعتبره استثناء وخطوات ثمينة لا يضيعها دون أن تكون متعارضة مع منهجية البيروقراطية العتيقة، زيادة على امتلاكه طاقة تمكنه من الاستثمار في القدرات البشرية التي يمكنها من صنع القرار والعمل وفق طاقتها الجديدة وبالذات الشباب وأصحاب الطموح والجسارة، دون أن يضمن نهاية النجاح بقدر ما يوفر طاقة الانطلاقة.

إن فرصة الشروع في قراءة علمية متخلصة من النزعة العاطفية والانطباعية للنخب لا تزال قائمة في الوقت الراهن، يكون المأمول منها إنتاج صورة ناضجة للأجيال القادمة، تساعدها على تحديد تعريف تاريخي لنفسها، وتساهم في بناء قدرتها على الانخراط في المستقبل دون منغصات مؤلمة.

 

12