بلا مواربة.. السياسة الأميركية في اليمن تمكين للإسلاميين على شاكلة العراق وأفغانستان

الحالة اليمنية استعادة للوفاق التلقائي بين طهران وواشنطن في العراق سنة 2003.
الجمعة 2021/07/09
افرحوا.. نصركم لاح ودولتكم دنت

حديث المبعوث الأميركي إلى اليمن تيم ليندركينغ عن اعتراف بلاده بالحوثيين كسلطة أمر واقع يجب التعامل معها، لم يعكس فقط حقيقة موقف الولايات المتّحدة من المتمرّدين الموالين لإيران لكنّه أعاد توضيح معالم سياسة أميركية ثابتة واستراتيجية طويلة المدى تقوم على التمكين للحركات الدينية المتشدّدة وجني مكاسب غير مباشرة من وراء ذلك وإنْ تطلب الأمر التضحية بخسائر جانبية كما هي الحال في العراق وأخيرا أفغانستان.

صنعاء – لم تكن مسارعة الخارجية الأميركية للتأكيد على شرعية الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا كافية للتغطية على الصدى المدوّي للكلمات قليلة العدد وعميقة المعنى التي أعلن بها المبعوث الأميركي إلى اليمن تيم ليندركينغ عن اعتراف بلاده بجماعة الحوثي المدعومة من قبل إيران “كطرف شرعي” ودعوته إلى التعامل معها على هذا الأساس.

وموطن العمق في تلك الكلمات أنّها لم تعكس فقط حقيقة الموقف الأميركي من الحوثيين، بل عبّرت عن سياسة أميركية راسخة تتمثّل في التمكين للجماعات والحركات الإسلامية أحزابا وميليشيات في عدد من البلدان وإتاحة المجال لها للوصول إلى سدّة الحكم في تلك البلدان والإمساك بزمام السلطة فيها والتحكّم في مقدّراتها.

فغض الولايات المتّحدة الطرف عن الحوثيين والسماح لهم بطريقة أو بأخرى لتأسيس دولة لهم على الجزء الذي يحتلونه من اليمن، بل منحهم فرصة استكمال السيطرة على مأرب الغنية بالغاز والنفط الضروريين لتأمين الحياة لتلك الدولة المنشودة، لن يكون حالة استثنائية إذا تمت مقارنته بما حدث في العراق سنة 2003 عندما هيّأت إدارة جورج بوش الابن بغزوها للبلد وإسقاطها نظام حزب البعث والمسارعة بتفكيك المؤسسة العسكرية العراقية، الأرضية للأحزاب والميليشيات الشيعية التابعة لإيران للقفز إلى سدّة الحكم.

كما أنّه لن يكون حالة فريدة في الوقت الحالي الذي تستكمل فيه الولايات المتّحدة سحب قوّاتها من أفغانستان وهي تعلم يقينا وبلا مواربة أن سحب تلك القوات يعني ببساطةٍ عمليةَ تسليم البلاد لحركة طالبان الإسلامية المتشدّدة.

ومن هذه الزاوية لم يكن من الصعب على منتقدي كلام ليندركينغ وتحجّجه بسياسة الأمر الواقع في التعامل مع سيطرة الحوثيين بقوة السلاح على أجزاء من اليمن، نسف حجّته تلك بسؤاله إن كانت بلاده مستعدّة للتسليم بـ”شرعية” تنظيم داعش فيما لو نجح في تثبيت سيطرته على الأجزاء الواسعة من سوريا والعراق بدءا من سنة 2014.

فوائد أكثر من الأضرار

قيام دولة للحوثيين يعني إشغال السعودية عن التطوّر والإصلاح بصراع جانبي مستدام واستهلاك مقدّراتها في ذلك

يجادل كثيرون بأنّ القوى الإسلامية التي تُتّهم الولايات المتّحدة بالعمل على التمكين لها في بلدان عربية وغيرها تناصب واشنطن العداء وتعمل ضدّ مصلحتها بل لمصلحة أعدائها كما هي الحال بالنسبة إلى الحوثيين في اليمن وللأحزاب والميليشيات الشيعية في العراق والتي تعمل لحساب إيران.

وإذ يعتبر ذلك حقيقة مستقّرة لا يمكن حجبها وإنكارها، فإنّ ما لا يمكن إنكاره أيضا أنّ التمكين لقوى وحركات متزمتة ومتشدّدة دينيا ومتعصبة طائفيا يحقّق للولايات المتّحدة جملة من الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى.

وعلى سبيل المثال كان إضعاف العراق وتدميره وإخراجه من معادلة القوّة في الإقليم هدفا أميركيا معلنا عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر بقوله لنظيره العراقي آنذاك طارق عزيز “إننا سنعيدكم إلى العصر الحجري”.

وليس من الصعب اليوم بعد مضي ثمانية عشر عاما على الغزو الأميركي للعراق التأكّد من نسبة التقدّم في تحقيق وعيد بيكر بإلقاء نظرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية القائمة في البلد.

ويظهر مجمل تلك الأوضاع فعالية الأداة التي وظفتها الولايات المتحدة في تدمير العراق بشكل ممنهج يصعب تداركه وهو تسليمه للأحزاب والميليشيات الشيعية، حتى وإن كانت تلك الأحزاب تابعة للغريمة إيران.

وأخطر ما أصاب العراق بسبب التعاون التلقائي وغير المنسّق بين الولايات المتّحدة وإيران على إذكاء الطائفية والتشدّد فيه وجعلهما أساسا من أسس عمليته السياسية، هو ظهور الهويات الجانبية وتفكّك وحدته المجتمعية وتضخم الشعور بالانتماء إلى العرق والطائفة وحتى العشيرة على حساب الانتماء إلى الدولة، الأمر الذي أسّس لصراعات طويلة المدى ومتجدّدة تنحو منحى العنف في أغلب الأحيان وهو ما يفسّر الحاجة إلى وجود ذلك العدد الهائل من الميليشيات.

صحيح أنّ بعض القوى والفصائل الشيعية تحوّلت اليوم إلى رأس حربة في صراع النفوذ الذي تخوضه طهران ضدّ واشنطن في العراق والمنطقة لكنّ ضررها يظل محدودا بالنسبة إلى قوّة عظمى من حجم الولايات المتّحدة قياسا بالضرر الذي يمكن أن يلحقه بها نهوض عراق جديد سيّد وقوّي ومتحرّر من أوهام الأيديولوجيا.

كما أنّ انفلات قوى شيعية وارتدادها على الولايات المتّحدة بعد أن صعدت إلى حكم العراق بفضلها، يعتبر من الأضرار الجانبية ويدخل ضمن الحسابات الخاطئة التي لا تكاد تخلو منها أيّ استراتيجية.

عودة الاحتواء المزدوج

Thumbnail

في الحالة اليمنية لن يخلو قيام دولة حوثية على حدود المملكة العربية السعودية من فوائد للولايات المتّحدة، بغض النظر عن العداء الشديد الذي يعلنه الحوثيون للولايات المتّحدة في شعارهم المعروف بالصرخة وفي خطابهم الإعلامي المستنسخ عن الخطاب الإيراني.سيجادل كثيرون بأنّ قيام تلك الدولة يتناقض كليّا مع مصلحة السعودية الحليفة الكبرى للولايات المتحدة في المنطقة، بينما سيقدّم خدمة جليلة لإيران الغريمة الأكبر لها هناك.

لكنّ إشغال السعودية عن التطوّر والإصلاح اللذين شرعت فيهما بالفعل في صراع جانبي مستدام مع كيان طائفي على حدودها الجنوبية، لن يخلو أيضا من مصلحة لواشنطن تنفيذا لسياسة أميركية قديمة سبق لها أن مارستها في المنطقة وتعرف بسياسة “الاحتواء المزدوج” وتقوم على الحفاظ على حدّ أدنى من تكافؤ الطرفين المتصارعين (العراق وإيران آنذاك) بهدف إطالة الصراع بينهما إلى أقصى مدّة ممكنة بهدف إضعافهما معا فضلا عن تحويلهما إلى سوق للسلاح واستهلاك مقدّراتهما المالية في ذلك.

علي البخيتي: الموقف الأميركي تجاه الحوثيين في اليمن يشبه مثيله تجاه طالبان في أفغانستان

ولعلّ إحياء تلك السياسة هو ما تسعى له الولايات المتّحدة أيضا من وراء انسحابها غير المنظّم من أفغانستان والذي سيعني إعادة زرع كيان سنّي متشدّد ومتحفّز للحرب والصراع متمثّل بدولة طالبان على حدود إيران الشيعية بعد أن زالت أسباب قيام صراع كبير في أمد منظور على غرار حرب ثمانينات القرن الماضي بين إيران والعراق وذلك بفعل وقوع الأخير في قبضة قوى موالية لطهران.

وفي سياق المقارنة بين الموقف الأميركي في كل من اليمن وأفغانستان اعتبر الكاتب والسياسي اليمني علي البخيتي أن تصريحات ليندركينغ “تتسق مع ما تتجه إليه سياسية الولايات المتحدة في أفغانستان من الاعتراف بسلطة حركة طالبان ومن السماح لها تدريجيا بالاستيلاء على مزيد من المدن انتهاء بالعاصمة”.

ووصف البخيتي القيادي السابق في الجماعة الحوثية واشنطن بأنها “جزء من توجه لإيصال الحوثيين إلى الحكم في اليمن بشكل رسمي”، وهي السياسة التي تتّضح، بحسب البخيتي، في إلغاء تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية وهي “الرسالة الخاطئة جدا التي جعلت الحوثيين يتقدمون نحو مأرب ويواصلون الكثير من جرائمهم مستندين إلى هذا الدعم الأميركي الذي لم يكونوا ينتظرونه ولا حتى يتخيّلونه”.

واعتبر البخيتي في تصريحات سابقة لـ”العرب” أن إدراج واشنطن بعض الشخصيات الحوثية في قائمة العقوبات استهانه باليمن وباليمنيين، مضيفا “ما الفائدة من إضافة اسم قيادي حوثي لا يملك دولارا واحدا في بنك أجنبي ولم يسافر حتى إلى بيروت أو القاهرة، ولا يعرف العالم ولا يهتم لشؤونه، فيما كان هناك قرار بالفعل يصنف الحوثيين كجماعة إرهابية وكان يمكن الضغط على الجماعة عبره حتى تبدأ بالتفاوض بشكل جدي”.

ونوه البخيتي بأن “الإجراءات والمواقف الأميركية تسببت في حقيقة الأمر بإلغاء أوراق القوة التي كان يمكن الضغط من خلالها على الحوثيين، وهو الأمر الذي يضع العديد من علامات الاستفهام حول حقيقة أهداف واشنطن وجديتها في مواجهة المشروع الإيراني في المنطقة ومقارعة الإرهاب عموما، سواء إرهاب طالبان والقاعدة أو إرهاب الحوثيين”.

العداء الشديد الذي يعلنه الحوثيون للولايات المتّحدة في شعارهم المعروف بالصرخة وفي خطابهم الإعلامي المستنسخ عن الخطاب الإيراني لا ينفي وجود مصلحة أميركية في قيام كيان طائفي آخر في المنطقة

لئن حمل كلام ليندركينغ عن الاعتراف بشرعية الحوثيين نوعا من المفاجأة للبعض، فإن المتابع على مدى طويل لتطور الأحداث في اليمن على مدى العشرية الماضية، وتقلّبات الصراع فيه منذ استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء وما رافق ذلك وأعقبه من صراع دامٍ، سيلاحظ أنّ التعاطي الدولي مع الملف بما في ذلك جهود الأمم المتّحدة ومبعوثيها جمال بن عمر وإسماعيل ولد الشيخ أحمد ومارتن غريفيث، كانت عبارة عن مواكبة ومسايرة للأحداث بما في ذلك تطورات الحرب دون بذل محاولة جدّية لوقفها، إذ انصبّت الجهود على محاولة إقناع الحوثيين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات رغم وجود حالة من اليقين المسبق بأنّهم لن يفعلوا طالما لم يكن هنالك ما يضطرّهم لذلك وما يدفعهم إليه دفعا.

وحتى القرار الأممي 2216 الذي يتضمّن بنودا تشير إلى كونهم الطرف المعتدي إذ تدعوهم إلى الكف عن استخدام العنف وسحب قواتهم من جميع المناطق التي استولوا عليها بما في ذلك العاصمة صنعاء والتخلي عن جميع الأسلحة التي استولوا عليها من المؤسسات العسكرية والأمنية والتوقف عن الأعمال التي تندرج ضمن نطاق صلاحيات الحكومة الشرعية، والامتناع عن أيّ تهديد
أو استفزاز للدول المجاورة، تمّ وضعه على الرفّ ولم تبد الأمم المتّحدة ومن ورائها القوى الدولية الكبرى بقيادة الولايات المتّحدة حرصا على تطبيقه دفاعا عن الشرعية الدولية وقوانينها على غرار ما تمّ في مناطق أخرى من العالم مثل العراق ويوغسلافيا السابقة عندما كانت مصالح تلك القوى تقتضي ذلك.

درس الحديدة التطبيقي

Thumbnail

يظل أبلغ درس تطبيقي في التمكين للحوثيين والحفاظ عليهم كقّوة قادرة على خوض الصراع في اليمن، فقد تمثّل في ما حدث بمحافظة الحديدة الساحلية بغرب اليمن سنة 2018 عندما أفضى التدخل الدولي والأممي الحازم إلى وقف حملة عسكرية كبرى تمّ التحضير لها بشكل جيد من خلال القوى المضادة الحوثيين، وكانت ستفضي حسب تقديرات أغلب الخبراء العسكريين إلى استعادة المحافظة الاستراتيجية من أيدي الحوثيين الأمر الذي كان سيُحدث منعطفا في الصراع بالبلد إذ كان سيقطع شريان الإمداد الرئيسي للجماعة ويحصر وجودها في مناطق داخلية والأهم أنّه سينتزع منها أحد أهم مقوّمات الحياة للكيان الذي تعمل على تأسيسه على أجزاء من البلاد وهو مقوّم الانفتاح على البحر والتواصل عبره بحرّية مع العالم الخارجي.

وقد تمّ الدفع آنذاك بالعامل الإنساني كسبب لوقف استكمال معركة الحديدة والدفع بدل ذلك باتّفاق سياسي يعرف باتفاق ستوكهولم ويتضمّن إقرار وقف لإطلاق النار رغم أنّه ظلّ بعد ذلك هشّا وعصيا عن التطبيق بشكل كامل لكنّه أظهر وجود إمكانية لدى المجتمع الدولي حين تتوفّر الإدارة لدى قواه الكبرى على التحكّم بالأحداث في اليمن ودفع أطراف الصراع فيه إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات والتوصّل إلى تفاهمات. فهل تتوفّر تلك الإرادة اليوم أمميا ودوليا، وأميركيا على وجه التحديد؟

فكلام ليندركينغ والحرب في مأرب التي يُغضّ الطرف عمليا عن تواصلها رغم التحذيرات من تبعاتها الإنسانية الخطرة، لا يعكسان ذلكن بل يؤشّران على عكسه تماما.

13