بقُ الصنوبر يحرم اللبنانيين من خيرات "الذهب الأبيض"

تراجع إنتاج الأرز بلبنان يعود بشكل رئيسي إلى تفشي حشرة بق الصنوبر التي باتت موجودة في مجمل غابات الصنوبريات.
السبت 2021/06/05
حشرات مؤذية جداً

يطال الإهمال أشجار الصنوبر كما طال الفقر اللبنانيين، وباتت غابات الأرز رمز لبنان ومفخرته معرضة لهجوم حشرات دخيلة انتقلت من القارة الأميركية إلى أوروبا، ثم وصلت تركيا قبل عشر سنوات، وتفتك هذه الآفة بمحصول أكواز الصنوبر في غياب مجهودات جدية لمكافحتها.

القصيبة (لبنان)- في قريته الوادعة شرق بيروت، اعتاد إلياس نعيمة أن يقطف 16 طنًا من أكواز الصنوبر، لكن محصوله هذا العام بالكاد لامس مئة كيلوغرام، بعدما قضت حشرات تفتك بغابات “الذهب الأبيض” على إنتاجه.

وفي حين يرتبط اسم لبنان عادة بغابات الأرز المعمّرة في جباله، يعادل غطاء الصنوبر فيه عشرة في المئة تقريبا من مساحة الغابات.

في غابة القصيبة في جبل لبنان، يعاين نعيمة أشجارًا عملاقة، يتوقف عند واحدة يبس جذعها، وأخرى تساقطت مخاريطها قبل أن تصبح أكوازا. ويقول، “كان إنتاجي يعادل 16 طنًا من أكواز الصنوبر، أما اليوم فبالكاد يلامس مئة كيلوغرام”. وكان إنتاج 600 كيلوغرام من حبوب الصنوبر البيضاء يدرّ له دخلًا يتجاوز أربعين ألف دولار. أما اليوم فلا مدخول يذكر.

وجراء تراجع الإنتاج، شهد سعر الصنوبر الأبيض، الذي يستخدم في تحضير الحلويات خصوصا، ارتفاعا تدريجيا، تجاوز معه ثمن الكيلوغرام المليون ليرة، أي قرابة ضعفي الحد الأدنى للأجور في لبنان.

ويعود تراجع الإنتاج بشكل رئيسي إلى تفشي حشرة دخيلة، انتقلت من القارة الأميركية إلى أوروبا، ثم وصلت تركيا العام 2010. ولاحظ المزارعون منذ العام 2012 تراجع الإنتاج تدريجيا، قبل أن تُرصد الحشرة بالعين المجردة في 2015.

ويشرح الأستاذ الجامعي والباحث في علم الحشرات وبيئة الغابات نبيل نمر، أن الحشرة المعروفة باسم بقّ الصنوبر “مؤذية جدًا”، وباتت موجودة حاليًا في مجمل غابات الصنوبريات، لكنّ ضررها الأكبر على الصنوبر المثمر كون أكوازه وجبة دسمة لها.

الحشرة المعروفة باسم بقّ الصنوبر "مؤذية جدا"

وتسحب الحشرة، وفق نمر، بمنقارها محتويات حبوب الصنوبر السوداء بنسبة قد تصل إلى 90 في المئة. ويقول نمر “لاحظنا أحيانًا وجود أكثر من عشر حشرات على الكوز الواحد”. وعندما تهاجم الحشرة الأكواز الصغيرة “تتسبب بيباسها كليًا وتسقط على الأرض”.

ويلعب التغير المناخي دورًا في تكاثر الحشرات، يقول نمر “تساهم الحرارة المرتفعة مع كمية تساقطات أقل بتغيير دورة حياة الحشرات وتضعف الأشجار”. وتعاني دول أخرى تنتشر فيها أشجار الصنوبر الأزمة ذاتها، لكن في لبنان الغارق في أسوأ أزماته الاقتصادية، لا تشكل مكافحة الحشرة أولوية للجهات الرسمية المعنية.

وبما أن موطن الحشرة هو القارة الأميركية، فإن “أعداءها الطبيعيين (أي الحشرات القادرة على القضاء عليها)”، وفق نمر “لم تأت معها، ما قد يتطلب عشرة أو عشرين عامًا حتى تعتاد الحشرات الموجودة هنا عليها”.

في الانتظار، المتاح حاليًا، كما يوضح نمر، هو “رشّ مبيد حين تكون الحشرة على الشجرة”، شرط “ألا يدخل إلى داخل الأكواز لئلا يسبّب مشاكل في التصدير والسلامة الغذائية”.

في أحراج تمّ رشها، لمس المزارعون تحسّن الإنتاج في الموسم اللاحق، وفق ما يشرح نعيمة، وهو نقيب مزارعي الصنوبر المثمر. ويضيف، “تحسّن الإنتاج موسم 2016- 2017 بعد رش المبيد، جراء انخفاض يباس المخاريط بنسبة 30 في المئة، بعدما تراوح بين 85 وتسعين في المئة قبل الرش”.

لكنّ عدم القدرة على الرش سنويًا في كل الأحراج المتضررة وتفشي الحشرة بشكل أكبر، في غياب سياسة مكافحة عامة، عوامل أدت إلى تراجع الإنتاج الكلي بشكل لافت.

ويقول نعيمة “نريد من الدولة فقط أن تساعدنا في عملية المكافحة. ليس لدينا اليوم أكثر من مئتي طن على صعيد لبنان” بعدما كان الإنتاج يقدّر بـ1200 طن سنويًا، ويوفر دخلًا يصل إلى 130 مليون دولار.

في بلدة بكاسين جنوبًا، حيث توجد أكبر غابة صنوبر مثمر على مساحة متصلة في الشرق الأوسط، (100 ألف شجرة على مساحة 220 هكتار)، تعاني الأشجار من تفشي حشرة بقّ الصنوبر، وكذلك من تداعيات انتشار حشرة أخرى من فصيلة الخشبيات، تعرف وفق نمر باسم خنفساء الصنوبر وتتغذى تحت قشرة الشجرة قبل أن تكمل دورة حياتها على الطرابين الجديدة، وتؤدي إلى يباسها. وتتكاثر خصوصًا في “الغابات المنسية” التي لا يتم الاعتناء بها.

ويقول حبيب فارس، رئيس بلدية بكاسين التي تعود لها ملكية الغابة، “آخر إنتاج معتبر كان العام 2013 ثم بدأت الكمية تتناقص. تراجع إنتاجنا بنسبة سبعين في المئة”. وانسحب ذلك على أرباح البلدية التي بلغت 500 مليون ليرة العام 2013.

إسم لبنان يرتبط بغابات الأرز المعمّرة في جباله ويعادل غطاء الصنوبر فيه عشرة في المئة من مساحة الغابات

تقف بلدية بكاسين عاجزة أمام المشكلة المتمادية، فيما تقلّص وزارة الزراعة من حجم دعمها سنويًا على وقع الانهيار الاقتصادي. ويقول فارس إن “الموضوع أكبر بكثير من قدراتنا”.

ويشرح “نحاول في كل عام أن نرشّ مساحة معينة من الغابة، لكن المشكلة أنه إذا اقتصر الأمر على مساحة معينة، فثمة إمكانية أن تعود الحشرة إلى المكان الذي تم رشّه” العام المقبل.

ورغم أن وزارة الزراعة تقدم دعمًا لرشّ المبيدات وصيانة الغابات، لكنه ليس كافيًا. ويناشد فارس “الجهات الدولية المانحة مساعدتنا على صيانة الغابة”.

بين أشجار يتجاوز طول بعضها 40 مترًا وعمر بعضها آلاف السنوات، يتجول مارون عزيز، الرئيس السابق للجنة غابة بكاسين في البلدية، آسفًا لما آل إليه وضع الصنوبر جراء الإهمال وغياب الرعاية الرسمية. ويقول، “الشجرة التي أصيبت باليباس يجب أن يتم استئصالها لأن الحشرة ستنتقل منها بعد أن ينتهي الغذاء إلى شجرة مجاورة”.

وانطلاقًا من أن الآلاف من العائلات تعتاش من الصنوبر، يشدّد نمر على ضرورة تضافر الجهود للحد من الأشجار المصابة.

ويقول “يعيش المجتمع المحلي حالة اقتصادية صعبة جدًا”، محذرًا من أن المزارعين “قد يتركون غاباتهم إذا استمر الوضع على ما هو عليه” ما قد يهدد استدامة الغابات. ويضيف، “الصنوبر في لبنان معروف بأنه الذهب الأبيض، لذلك يجب أن نجد حلًا”.

17