بغداد حين ضاع تبغددها

الموازين انقلبت حين أخذت الفوضى تزحف على بغداد وتحولها إلى نموذج مشوه يختلف عن الصورة التي كانت عليها في الثلاثينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي فكل شيء فيها تغير.
الأربعاء 2024/05/29
كل شيء تغير في بغداد

قبل سنوات وخلال مهمة صحفية لتغطية مؤتمر في المنطقة الخضراء خلف القصر الحكومي، وجدتُ نفسي في بغداد أخرى كان كل شيء يخبرني أنها مختلفة عن بغداد التي أعرفها؛ شوارع نظيفة، واجهات لبيوت مرتبة، مساحات خضراء تحيطها أشجار عامرة، أحياء هادئة تخلو من الباعة المتجولين أو منبّهات السيارات وتجمعات المتسولين، كان كل شيء يوحي بجمال المنطقة.

في الحقيقة كنت أتمنى لو لم أخرج من هذه الجنة التي سميتها وهي في حقيقتها كانت ممتلكات وقصور رجال النظام السابق وأزلامه وبيوت رموزه توزعت على قادة العراق الجديد وتحوّلت تلك الأملاك إلى محميات خاصة.

بعد إكمال المهمة الصحفية واضطراري إلى المغادرة وعبور جسر الجمهورية إلى ساحة التحرير القريبة من مكان الصحيفة التي أعمل بها وكأني دخلت بغداد أخرى، مناطق يكثر بها باعة الملابس المستعملة وازدحام السيارات وحشود العاطلين الذين يفترشون الأرصفة بانتظار فرصة عمل ومشاهد الفقر من حيث تلتفت، يعيش أحداثها شباب يبحث عن إجابات لأسئلة تراودهم لماذا هذه الحياة المُذلّة؟ ولماذا أصبح الإدمان على المخدرات والانتحار وهجرة الوطن والدخول مع عصابات الجريمة حلا لمشاكلهم؟

على ضفة نهر دجلة تقف عمارة المطعم التركي بطوابقها الأربعة عشر شاخصة على المنطقة الخضراء وهي بناية فارغة كانت شاهدا على معركة شرسة بين شباب أعزل يبحث عن فرصة في العيش والحياة وبين سلطة مدجّجة بالسلاح والمال والفساد.

◄ التبغدد الذي يعني الانتساب إلى بغداد أو التشبّه بأهلها كما تفسره بعض المعاجم وربما الجاه والرفاه، فهل بقت بغداد على حالها كما تشير إليها صور الماضي

لا يفصل جسر الجمهورية المسافة بعيدا بين المنطقة الخضراء معقل السلطة ورجالاتها وقصور الحكم المُسوّر وبين سكان وزائري ساحة التحرير التي شهدت صراعا مريرا في ثورة تشرين بين ترف وثراء السلطة وفُحشها وبين الفقر والجوع والحرمان.

كان جسر الجمهورية يمثل الفجوة بين السلطة التي تحاول أن تقنع الناس بالمزيد من فصول الصبر والسلوان في مقابل جمهور جائع يبحث عن فرصة في الحياة.

حتى إن شعار “القناعة كنز لا يفنى” قد تلاشى من الذاكرة حين لم يعد ذلك الشباب مقتنعا بحجج السلطة وذرائعها.

بين المساحتين التي يفصلها جسر الجمهورية مسافة قصيرة تتيح لسكان المنطقة الخضراء أن يسمعوا أنين وصراخ الفقراء والجياع من نظرائهم العراقيين الذين كفل لهم الدستور حق الحياة الكريمة والمساواة في العمل والعيش، لكنها السلطة التي تتعمد إقامة جنتها الوارثة داخل ذلك الخراب حيث لا شأن لها بسكان القاع الصفصف، وكيف يعيشون، وماذا سيكون مستقبلهم خصوصا عندما أدركوا أن هؤلاء جنود مستعدون لإعادة انتخابهم في مواسم الانتخابات، وأن هؤلاء الفقراء تشبعهم الشعارات الفارغة وحلو الكلام الذي لا يهز كرامتهم ولا هم يحزنون.

اطمأنت السلطة إلى أن هؤلاء من الممكن أن يشكروا خالقهم على نعمة التغيير التي جلبها لهم التواطؤ مع المحتل لكنهم نسوا أو تناسوا أن نعمة التغيير التي يتحدثون عنها بدّلت حالهم من السيء إلى الأسوأ، وذلك هو الفرق بين الرهانين.

انقلبت الموازين حين أخذت الفوضى تزحف على بغداد وتحوّلها إلى نموذج مشوّه يختلف عن الصورة التي كانت عليها في الثلاثينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي فكل شيء فيها تغير ابتداءً من الأزياء وحتى الأذواق، فصار شارع أبونواس مثالا للمجون ورأس أبوجعفر المنصور الجاثم في قلب بغداد رمزا للحقد الطائفي والصراع المذهبي وشارع الرشيد عنوانا يُذكّرهم بحاكم أموي اسمه هارون الرشيد.

التبغدد الذي يعني الانتساب إلى بغداد أو التشبّه بأهلها كما تفسره بعض المعاجم وربما الجاه والرفاه، فهل بقت بغداد على حالها كما تشير إليها صور الماضي؟

9