بعد فوز الـ"لا" لمن الغلبة: ديمقراطية أثينا أم ديمقراطية بروكسل

كتب سارج حليمي في مقال بعنوان “من أجل دعم اليونان”، في عدد شهر مارس الماضي لصحيفة “لوموند الدبلوماسية” الفرنسيّة، أنّ الشعب اليوناني ليس في حاجة إلى من يعلّمه مدلول الديمقراطيّة فهو مبدعها ومعلّمها الأوّل.
وأوّل هذه البلدان هي ألمانيا القويّة باقتصادها ومالها قبل أن تنتقل العدوى إلى هولندا والبرتغال وفنلندا وحتّى أسبانيا، قبل أن تتحوّل بدورها إلى اليسار في الانتخابات البلديّة الأخيرة.
توحي العديد من المؤشّرات بأنّ اليونان، التي شهدت ثقافتها ميلاد الديمقراطيّة وأهدتها إلى العالم بأسره، سائرة الآن نحو تراجيديا، كان لها الفضل كذلك في إبداعها قديما، وفصولها تُحبك تدريجيا في العواصم الأوروبيّة الكبرى.
وسواء قبل اليونانيون بالإملاءات الأوروبية أو رفضوها، وحتّى في حالة الوصول إلى اتفاق تعادليّ، يتزحزح بمقتضاه كلّ طرف نحو الوسط وقبل ببعض شروط الطرف الآخر، فإنّه لا مناص من النهاية التراجيدية للبطل اليوناني الذي سنراه يخرّ صريعا في آخر المشوار مثل “سيزيف”، بعد أن يصل إلى قمّة الجبل ويرتطم رأسه بصخرة “العناد” ولن يُسجلّ له التاريخ إلّا شرف المحاولة فحسب.
|
هذا بالطبع سيناريو متشائم ولكنّه الأكثر واقعيّة في نظر العديد من الملاحظين، رغم أنّ البعض الآخر يرى أنّه في كلّ الأحوال يظلّ هناك بصيص من الأمل بعد أن هبّت رياح التغيير والتمرّد على المؤسّسات الأوروبيّة في أسبانيا بصعود البوديموس اليساري إلى سدّة التسيير البلدي خلال الشهر الماضي، في أعرق المدن الأسبانية وأكبرها برشلونة ومدريد، وإمكانية فوزه الكبير في الانتخابات التشريعيّة القادمة.
وقال مسؤول في حزب “فورتسا إيطاليا” اليميني ريناتو برونيتا “أدعم تسيبراس وإن كنت لا أتفق مع رؤيته السياسية وسياساته الاقتصادية”، مضيفا “لقد سئمنا من أوروبا البيروقراطية هذه، وتعبنا من أوروبا الألمانية”، في إشارة إلى نفوذ برلين الواسع.
ومن بين الأحزاب اليمينية المتشددة أيضا، حزب الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في فرنسا الذي يدعو إلى الخروج من نظام العملة الموحدة، إذ رحبت رئيسته مارين لوبان، بنتائج الاستفتاء في اليونان، وأوضحت في تصريحات صحفية، “أنه حان الوقت لأن يجتمع قادة الاتحاد الأوروبي، وأن يعلموا حقيقة أنَّ اليورو لم يعد ناجحا”، مشيرة “أن الناخب اليوناني قال (لا)، للإملاءات الأوروبية”.
إصلاحات مخربة
منذ انتخاب اليونانيين لحزب “سيريزا” اليساري “الراديكالي”، كما يُطلق عليه عادة في الإعلام الأوروبي، وهي صفة لا تخلو حسب قادته والمتعاطفين معه ومنتخبيه من سوء النيّة لإظهاره في مظهر المتشدّد والإلصاق به صفة الغلوّ، انخرطت الحكومة المنبثقة عنه في مفاوضات شاقة مع الهيئات الماليّة الأوروبيّة الرسميّة من أجل إقناعها باسم الديمقراطية باحترام سيادة الشعب اليوناني واختياراته السياسية والاقتصادية المتمثّلة بالخصوص في رفض ما تسميّها هذه الهيئات بـ”الإصلاحات” واعتبارها على العكس من ذلك وعلى طرف نقيض مع الإصطلاح الأوروبي الرسمي بـ”المهلكات” و”المخرّبات”.
ولم تفض هذه المفاوضات، التي امتدّت على حوالي خمسة أشهر، إلى أيّ نتيجة تُذكر، ماعدا مزيد تأزيم الاقتصاد اليوناني وإنهاكه؛ وبالتالي عجز أثينا عن تسديد الدين المتخلّد بذمّتها نحو صندوق النقد الدولي بقيمة مليار وستمئة مليون دولار، كان من المفترض أن يقع تسديده في 6 يونيو الماضي.
وصلت هذه المفاوضات إلى طريق مسدود، وبلغ التشنّج بين الطرفين قبل يوم من الاستفتاء الذي لجأت إليه الحكومة اليونانية ليقول الشعب اليوناني كلمته في المطالب الأوروبية برفضها.
|
انسحاب أثينا من الاتحاد الأوروبي
الآن وقد صوّت الشعب اليوناني، يوم الأحد الماضي، برفض المشروع الأوروبي للإصلاح بـ “لا” النفي اليونانيّة الصريحة التي جعلها أفلاطون الكلمة المفتاح لممارسة الحرّية، لا شيء يدلّ على أنّ الأزمة ستنفرج. لا شكّ أنّ “لا” ستقوّي من موقف الحكومة اليونانيّة في مفاوضات محتملة ومرتقبة ستكون بكلّ تأكيد أعسر من سابقاتها في ظلّ تصريحات متضاربة، فوزير الماليّة الألماني فولفغانغ شويبله بعد صدور نتائج الاستفتاء صرّح بأنّ اليونان عليه من اليوم التفكير في عملة أخرى غير “اليورو”. ما يعني انسحاب أثينا من الاتحاد الأوروبي.
ويؤكّد زيغمار غابريل نائب المستشارة أنجيلا ميركل كلامه بالقول إنّ رئيس الوزراء اليوناني قد قطع كلّ جسور التواصل مع الاتحاد الأوروبي. في حين أنّ صندوق النقد الدولي أصدر تقريرا يتعلّق بالأزمة اليونانيّة يحث فيه الاتّحاد الأوروبي على تحمّل المسؤولية في اتخاذ قرارات تضامنيّة جريئة مع اليونان.
ما فُهم منه أنّه دعم ضمني للحكومة اليونانيّة في صراعها مع المؤسّسات الأوروبية المانحة. غير أنّ مستقبل اليونان، بل لربّما مستقبل الاتحاد الأوروبي، يظلّ مبهما وإذا كان هناك اختلاف في الآراء وأكثر من ذلك صعوبة في استبصار ما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيّام فيما يتعلّق بمستقبل العلاقة بين اليونان والاتحاد الأوربي؛ ولا أحد بإمكانه التكهّن حقيقة بما سيحدث فعلا؛ فإنّه ثمّة إجماع على أنّ “لا” اليونان و”لا” الاتحاد الأوروبي سيكونان في المستقبل كما كانا عليه في السنوات الماضية، لا سيما وإنّ الإشكال لا يتعلّق بالاقتصاد والماليّة والديون وإنّما بمفهوم الديمقراطية ذاته في الحقل الأوروبي: واحد يراها من منظور يساري اشتراكي وربّما “أفلاطوني” ومن خلال صناديق الاقتراع والآخر يراها من منظور ليبرالي ومن خلال صناديق المال. ولا شكّ أنّ الأيّام والشهور القادمة ستفصح عمّن ستكون له الغلبة من المفهومين: الديمقراطية اليونانية، ديمقراطية الفقراء والمدينة الفاضلة، أم ديمقراطية رأس المال، ديمقراطية الصيارفة والأغنياء.