بعد التقارب مع تركيا مصر تمنع تحويل كوسوفو إلى ملاذ للإخوان

القاهرة تصوغ معادلة متوازنة مع صربيا للحد من تمدّد الجماعة.
الثلاثاء 2022/12/13
مصر أرسلت مبعوثين دينيين إلى البلقان فاتحة أبواب الأزهر لطلابها

تحرّكت القاهرة عقب انطلاق مسار التقارب مع أنقرة وما استتبعه من تضييق على جماعة الإخوان، لملاحقة فلولها في بعض دول الجوار التركي ولدحض الدعاية التي اتهمت مصر بالتخلي عن المسلمين وقضاياهم. وفي الوقت ذاته واجهت مصر النفوذ المتزايد للجماعة في كوسوفو بعد أن شكلت أحد الملاذات الرئيسية البديلة لعناصر الجماعة وقادتها بعد التشديد عليهم في تركيا.

طرحت القاهرة تصوّرا مناهضا لما يروّجه قادة الإخوان حول ما يفيد وما يضر الإسلام والمسلمين في دول أوروبا، بما يضمن اندماج الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية ويحد من انفصال هؤلاء وعزلتهم خلف سياسات وبرامج وتصورات التنظيم الدولي للإخوان.

وعكست مصر المقاربة التي صاغتها جماعة الإخوان في أثناء توليها السلطة عام 2012 في التعامل مع دول البلقان التي تتسم بحساسيات محمولة بصراعات عرقية ودينية وتاريخية.

تنظيم الإخوان كان قد اعترف، مستغلا وجود أحد قيادييه على رأس السلطة في القاهرة، باستقلال كوسوفو عن صربيا، وهو ما تغيّر عندما تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي الحكم، حيث جمّد اعتراف بلاده بكوسوفو التي تعتبرها صربيا جزءا من أراضيها.

وأعيدت صياغة العلاقات مع دول البلقان بعد عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي في يوليو 2013 بعيدا عن الاعتبارات الأيديولوجية والمذهبية التي أولتها جماعة الإخوان أهمية كبيرة.

تبعات الصراع

خخ
تنظيم الإخوان كان قد اعترف باستقلال كوسوفو عن صربيا، وعندما تولى الرئيس السيسي الحكم جمّد اعتراف بلاده بها

جرى تعزيز علاقات القاهرة مع صربيا على مستويات مختلفة، وقلصت في المقابل إلى الحد الأدنى العلاقات مع كوسوفو، وامتنعت مصر، بعد تجميد العلاقات معها، عن التصويت على عضويتها في اليونسكو 2015.

ومن خلال إعادة صياغة العلاقات بدول البلقان تحرّرت مصر من تبعات الصراع الديني والعرقي ومن تأسيس تحالفات من منطلق أيديولوجي ومذهبي، خاصة بعد حرب ممتدة بين صربيا وجارتها كوسوفو قُتل ونزح خلالها مئات الآلاف، وزادها التوظيف الديني تعقيدا وشراسة.

لم تلعب القاهرة على وتر العاطفة الدينية التي برعت في استغلالها تركيا وجماعة الإخوان لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة على حساب مصالح قرابة المليونين نسمة في كوسوفو.

وسعت الجهتان، تركيا والإخوان، إلى مدّ النفوذ في كوسوفو وعموم البلقان، على خلفية المظلومية التي يشعر بها مسلمو كوسوفو ويشكلون غالبية السكان، ودُمرت العشرات من المساجد أثناء الحرب ولم تتم إعادة البناء، بينما شيّدت كاتدرائية كاثوليكية ضخمة دون مشكلة، على الرغم من أن المسيحيين يشكلون 3 في المئة فقط من جملة عدد السكان في كوسوفو.

كما مكّن شعور المسلمين في كوسوفو بالمرارة وبالاضطهاد الديني بعض القوى التي اعتادت تقديم نفسها كمدافعة عن حقوق المسلمين في العالم من تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية على حساب مصالح شعوب البلقان.

كوسوفو المجاورة لتركيا باتت، بما مهدته الجماعة من حضور ونفوذ، ساحة مهيأة لاستقبال فلول الإخوان الهاربين وقادتها المطلوبين

ومهد ما جرى تكريسه من أحقاد وضغائن دينية وعرقية الطريق أمام جماعة الإخوان لحضور قوي داخل كوسوفو التي اعتبرتها الجماعة عمقا استراتيجيا جديدا وساحة نفوذ خلفية تلجأ إليها وقت أزماتها وانتكاساتها.

كثفت الجماعة من حضورها هناك في عام حكمها لمصر من خلال تدفق عناصر الإخوان للعمل وتدشين مشاريع استثمارية ومؤسسات خيرية وإغاثية، وتم تبادل الزيارات بين أئمة من كوسوفو ودعاة بالإخوان.

وباتت كوسوفو المجاورة لتركيا بما مهدته الجماعة من حضور ونفوذ ساحة مهيأة لاستقبال فلول الإخوان الهاربين وقادتها المطلوبين، نظرا لما فرشته مسبقا من أرضية صلبة وفرت لها ملاذات وفرص عمل جيدة.

لذلك فككت مصر التحالفات والعلاقات السابقة التي شُكلت على أساس أيديولوجي وانتماءات طائفية وأعادت تركيبها وصياغتها من منظور مصالح الدول وفقا لقواعد السياسة الدولية وما يشهده النظام العالمي من تحولات كبرى.

وبُني هذا التصور على أن دول أوروبا، ومن ضمنها دول في أوروبا الشرقية كصربيا والبوسنة وكوسوفو وبولندا، والدول الإسلامية والعربية في مركب واحدة، وظلت لسنوات مستهدفة لزعزعة استقرارها بورقة تيار الإسلام السياسي مدعوما من أجنحة وتيارات في الغرب، أبرزها اليسار الأميركي إضافة إلى الديمقراطيين الاجتماعيين في أوروبا.

ويراعي هذا الاتجاه موازين القوى الحقيقية بمعزل عن الاعتبارات الأيديولوجية، فصربيا من أكبر دول منطقة غرب البلقان ورشحت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 2012، وتشكل أهمية كبيرة بالنظر إلى ثقلها السياسي والتجاري والاقتصادي والحضاري للقوى الساعية لخلق نفوذ لها في منطقة تعتبر محط أنظار دوائر إقليمية ودولية الكبرى.

استعادة التوازنات مجددا

غغ

التحولات التي يشهدها العالم حاليا، مثل صعود الصين والأزمة الأوكرانية وبروز تهديدات محدقة للأمن الأوروبي بعد التدخل العسكري الروسي وتأثر كل دول العالم بما يجري ومن ضمنها دول الشرق الأوسط، دفعت نحو استعادة توازنات ومعادلات حقبة الحرب الباردة.

وكانت مصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر خلال الحرب الباردة وصربيا كوريثة للاتحاد اليوغسلافي السابق بزعامة جوزيف تيتو في مقدمة القوى التي انخرطت في حركة عدم الانحياز كطريق للتخفف من تبعات سياسات الحرب الباردة.

ويمنع تفادي التكتل إلى طرف بعينه في الصراعات الدولية الجارية الإضرار بأمن قوى أوروبا الشرقية ودول البلقان والشرق الأوسط وبمصالحها الخارجية ما يعيد لسياسة عدم الانحياز جاذبيتها الإستراتيجية.

تقف مصر موقفا محايدا في الأزمة الأوكرانية، وطالب رئيسها بوقف الحرب التي تضررت منها غالبية دول العالم، وبالمثل التزمت صربيا الحياد، فلم توقع عقوبات على روسيا أو تسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي.

التحولات التي يشهدها العالم حاليا، مثل صعود الصين والأزمة الأوكرانية وبروز تهديدات محدقة للأمن، دفعت نحو استعادة توازنات ومعادلات حقبة الحرب الباردة

وحاول تنظيم الإخوان التعامل مع هذه التحولات بعد تغليب مصر مصالحها وأمنها القومي بمعزل عن التحالفات الأيديولوجية والحسابات الضيقة لبعض القوى والجماعات، عبر الترويج لدعاية تُظهِر القاهرة في صورة من تخلى عن المسلمين والدفاع عن قضاياهم.

تهدف جماعة الإخوان لحماية ما حققته من نفوذ وحضور في كوسوفو خلف تغلغلها في المجتمع وبتوظيف عناوين العمل الخيري والدعوي، بينما يتحرك النظام المصري بالتعاون مع صربيا سياسيا واقتصاديا وثقافيا لمنع أي جماعات وتشكيلات متشددة من استغلال القضايا الإسلامية في صربيا ومنطقة البلقان لتحقيق أجندة التنظيم الدولي للإخوان في أوروبا.

حرصت مصر على دحض دعايات الإخوان ضدها بتعزيز تعاونها مع صربيا وغيرها من دول أوروبا لحماية الأقليات المسلمة لتحقيق مصالحهم والحفاظ على حقوقهم وتعزيز مكانتهم في مجتمعاتهم وحرمان جماعات تسييس الدين من استغلالهم لتحقيق مصالحها الضيقة.

جرى طرح مؤسسة الأزهر كأكبر وأهم مؤسسة إسلامية في العالم كجهة شرعية موثوقة للقيام بدور التحدث باسم المسلمين والتعبير عن قضاياهم، وتمكينهم من أداء طقوسهم وشعائرهم بمعزل عن التوظيف السياسي واستخدام الدين من قبل الإخوان كورقة لرسم سياسات وتحالفات بالدول.

كما تم إرسال مبعوثين دينيين مصريين إلى صربيا ودول البلقان وإتاحة الفرص للطلاب المسلمين للدراسة في الأزهر، فضلا عن توجيه الدعوة إلى قادة مسلمين في صربيا للمشاركة في المؤتمرات الدينية بمصر.

وتحرم القاهرة تدريجيا جماعة الإخوان من مخطط تحويل كوسوفو إلى ملاذ آمن لقياداتها الخطيرة الهاربة والمنتقلة من تركيا بنسف صيغة التمدد الإخواني على أساس تمثيل الجماعة للإسلام والمسلمين في العالم والدفاع عن قضاياهم.

6