بسام الملا صانع "باب الحارة" الذي تلصّص لنا على البيوت الشامية

حكواتي التلفزيون وصاحب الشعبية الجارفة.
الثلاثاء 2022/01/25
الملا لم يأت من فراغ

دمشق – لم تكن الشاشة السورية قبل بسام الملا خالية من الأعمال التي تصوّر البيئة الشعبية وتحديدا الدمشقية منها، داخل السور وخارجه، وبالطبع هناك فارق بين المكانين، أما خارج السور حيث يمتد المجتمع ليصل إلى الريف، فقد غطته الدراما السورية بشكل كبير، في حكايات الفلاحين والأغوات والبكوات وصراعاتهم.

غير أن المدينة القديمة بقيت مغلقة، حسب تصورات الكثيرين، على أسرارها وعلاقاتها المعقدة، وكذلك غوايتها وزخرفها، ناهيك عن صداماتها والنزاعات في ما بينها. وهو ما دفع صنّاع المحتوى إلى اعتباره حقلا غامضا يتوجب اكتشافه.

هو استشراق من نوع آخر، فعلى الرغم من أن بسام الملا المخرج التلفزيوني السوري الذي رحل قبل يومين، كان من سكان دمشق، إلا أنه من مكان بقي ينظر إليه على أنه الكتاب المغلق الشهي، فركن الدين، حيث ولد الملا، عالم مختلف، مختلط متنوع على المهن والأعراق والمستويات الاجتماعية، أما حين تنحدر الأرض من جبل قاسيون باتجاه قلعة دمشق وما خلفها، فسيكون هناك ما يغري بالتلصص ومن ثم النقل إلى الآخرين ـ المشاهدين في هذا العصر، بنفس أدوات الحكواتي القديم الذي كان يجلس في المقاهي ويقص قصصه الخيالية على الجالسين وسط نراجيلهم.

لا شك أن الملا عرف كيف يلعب دور الحكواتي وببراعة، ولكن قصص الحكواتي الأول كانت مستمدة من كتب تتناقلها الأجيال، الزير سالم أبوليلى المهلهل، وعنتر بن شداد والتغريبة الهلالية، فما الذي كان سيقصه الملا من حكايات خارج الصندوق؟

ثقافة قديمة جديدة

الملا عرف كيف يلعب دور الحكواتي وببراعة، ولكن قصص الحكواتي الأول كانت مستمدة من كتب تتناقلها الأجيال، الزير سالم أبوليلى المهلهل، وعنتر بن شداد والتغريبة الهلالية، فما الذي كان سيقصه الملا من حكايات خارج الصندوق؟

البيئة الشامية مثيرة شكلا ومضمونا، البيوت العريقة المصممة هندسيا للقيام بتلك المهمة، جذب العين، وخلق الراحة خلف جدرانها، الشجيرات والسلالم والأقواس، هذا لا يمكنك أن تجده في أي بيئة عربية أخرى، وهكذا بات بوسع الملا أن يشبع العين وهو أول مكسب من مكاسبه كمخرج يدخل التحدي. وبقيت القصص.

لم يأت الملا من فراغ، فهو ابن التجربة الثقافية الجادة، والأعمال الأولى التي قدمها لم تكن أعمالا خفيفة ترفيهية، فكان برنامج “أوراق صغيرة” نهاية السبعينات، ثم “المجلة الثقافية” و”مجلة التلفزيون” مع مروان صواف بعدها البرنامج الذي حصد التفاعل الشعبي الكبير “السلب والموجب” مع توفيق حلاق، ومع عدنان بوظو قدّم الملا برامج رياضية تابعها الملايين.

وعلى المستوى الأعلى قدّم الملا أعمالا ذات بعد تنويري من بينها “شعراء العربية” لرياض نعسان آغا ومعه قدّم سلسلة “الشعر والشعراء” من إنتاج خلدون المالح، ثم “ملاعب القوافي” مع  منى واصف وعبدالرحمن آل رشي. وسيذهب نحو التاريخ في “سيرة الفتوحات” وغيرها من الأعمال التي قدّمت نموذجا معرفيا نادرا في ذلك الحين.

كل ذلك قبل أن يتقدم خطوات نحو السيرة المتخيلة في عمل مثل “الخشخاش” الذي أراد صدم المجتمع بالحديث عن ظاهرة المخدرات وآثارها المدمرة. قبل أن يتجه نحو التاريخ من جديد في مسلسل “العبابيد” الذي تناول سيرة زنوبيا ملكة تدمر العربية.

نحن إذن أمام مخرج لم يقرّر تقديم الصورة الخفيفة الاستهلاكية كما يطيب للبعض وصفه بعد أعماله الشامية في العقدين الماضيين. لكن هذا الخيار كان خياره الواعي ومشروعه الذي استثمر فيه الكثيرون.

في مناخ مثل المناخ السوري، لم يكن من السهل إنتاج عمل درامي بعيد عن أغراض الدراما الأساسية والتي تقوم على التسلية والشد وملء وقت المشاهد بغير الأخبار والمواد السياسية، وفي زمن مبكر لم تكن ثمة خيارات غير مشاهدة المادة التي تشرف على إنتاجها الدولة عبر شاشتها.

الواقعية الدرامية والواقع

◄ مشروع الملا لم يكن تقديم الصورة الخفيفة كما يقول البعض. كان خياره الواعي الذي استثمر فيه كثيرون
 مشروع الملا لم يكن تقديم الصورة الخفيفة كما يقول البعض. كان خياره الواعي الذي استثمر فيه كثيرون

كان هذا التحدي الآخر الذي واجه مخرجي الدراما السورية، وهم باتوا اليوم مدارس ومذاهب، إلا أن غالبيتهم نجحت في اجتياز الخط، وتحقيق حضور واسع خارج سوريا والانتشار بشكل كبير في العالم العربي.

استقى الملا والكتاب الذين تعامل معهم حبكات مسلسلاتهم من القصص الشعبية المتداولة، ومن الذاكرة المنتشرة في الشارع، وحين أعاد إنتاجها رفضها النقاد وتلقفها المجتمع على النغم ذاته، فالهدف هو التسلية ومتابعة القصص البسيطة، حنث بقسم، رهن شعرات من شارب مقابل دين، طلاق وزواج، خناقات بين الحارات، وهكذا.

الملا لو كان رسام كاريكاتير أو صانع رسوم متحركة، لما طاله النقد، فهو لم يقدّم سوى الصورة التي أراد رسمها، الحارة وصراعاتها، وأحاديث "النسوان"، وعظمة البشر العاديين سواء كانوا حمّالين أو حلاقين أو باعة خضروات

أبحاث وأطروحات ماجستير ودكتوراه كتبت عن “باب الحارة” وشخصياته واتجاه حكاياته، وكانت بعض تلك القراءات تصل إلى أن الملا كان مجرد أداة في يد الإنتاج والمشرفين عليه، إلا أن هذا يبقى قراءة غير منصفة لمشروع الملا، الذي بدأ بسيطا ثم أخذ يتركّب حتى غدا ماكينة إنتاج ضخمة تتشابك فيها العديد من الخيوط، كما يمكن أن يبيّن أحد أهم الكتب التي تابعت سيرة الملا وهو كتاب الناقد السوري محمد منصور الذي نشر قبل سنوات بعنوان “بسام الملا عاشق البيئة الدمشقية”.

وقد كتب منصور بعد رحيل الملا يقول “إذا كانت قيمة مسلسل الملا (الخوالي) الذي أُنتج عام 2000 أنه قدّم وثيقة بصرية  غير مسبوقة عن طقوس رحلة الحج الشامي، وعالجها بدرامية عالية، بالتوازي مع صياغته لصورة البطل الشعبي (نصّار بن عريبي)، فإن الملا في كل ما قدّمه عن دراما البيئة الشامية وبالأخص مسلسله الأشهر (باب الحارة) الذي صوّر الجزأين الأول والثاني منه عام 2006، وحقّق له شهرة عربية كمخرج، وجعله حصانا رابحا في أعين المحطات وشركات الإنتاج، لم يقدّم صورة نقدية عن الحارة الدمشقية مثلما فعل محمد الماغوط وغسان جبري في (حكايا الليل) أو عادل أبوشنب وعلاء الدين كوكش في (حارة الملح) ثم (أبوكامل) من تأليف فؤاد شربجي، أو خيري الذهبي وغسان جبري في (لك يا شام) أو مأمون البني ورفيق الصبان في (نساء بلا أجنحة)، أو هاني السعدي وممدوح عدوان وهيثم حقي في (دائرة النار). من دون أن ننسى الصورة النقدية الكوميدية الأهم والأحب؛ صورة (حارة كل مين إيدو إلو) التي أبدعها نهاد قلعي في (صح النوم) مع المخرج خلدون المالح، ولم يغفل من سهامه النقدية المرحة طبائع المجتمع الدمشقي وبنية الحارة. بسام الملا لم ينتمِ إلى هذا السياق بالمطلق. جاء إلى الحارة الدمشقية في زمن الحنين إليها، في الزمن الذي شعر الدمشقيون فيه أنها سُرِقت منهم معمارا وقيما وعلاقات من قبل سلطة همجية حاقدة شوّهت مدينتهم، فجاءت مسلسلاته تعبيرا عن الحنين لشخوصها ومعمارها وتفاصيلها وأعيادها وأتراحها”.

بطولة المخرج ونجومه

◄ نجوم كثر يدينون بالفضل للملا بعد أن اشتركوا معه في أعماله، فباتت أقوالهم أمثالا شعبية على ألسنة الناس
◄ نجوم كثر يدينون بالفضل للملا بعد أن اشتركوا معه في أعماله، فباتت أقوالهم أمثالا شعبية على ألسنة الناس

تقاس نجاحات المشاريع الإبداعية بنتائجها لا بتضاريس الطريق، وما تمكّن مشروع الملا من ترسيخه أكبر بكثير من قائمة السلبيات الطويلة التي شابت أعماله، في النهاية ماذا تبقى من تلك السلبيات ونقاط الضعف؟ لا شيء. فالمشاهد مضى مع الملا ومسلسلاته وتابعه واحتفظ بها في ذاكرته بالكثير من الحنين والحميمية، وساعد الملا على تحقيق اكتساح تجاري ضخم رفع سوية صناعة الدراما السورية والعربية ودرّ مئات الملايين على المنتجين، وما الذي يطمح إليه مخرج تلفزيوني أكثر من ذلك؟

فوق ذلك فقد صنع الملا العديد من النجوم الذين اشتركوا معه في أعماله الكبيرة في مشاهد قليلة وكانوا أشبه بمبتدئين، قبل أن يتحولوا إلى ظواهر في عالم الفن، وتتحول الشخصيات التي تقمصوها إلى أشياء تلاحق الناس في كل مكان، حتى على علب البسكويت والمناديل والإعلانات وباتت أقوالهم أمثالا شعبية على ألسنة الصغار والكبار.

دمشق القديمة بقيت مغلقة، حسب تصورات الكثيرين، على أسرارها وعلاقاتها المعقدة، وكذلك غوايتها وزخرفها، ناهيك عن صداماتها والنزاعات في ما بينها. وهو ما دفع صنّاع المحتوى إلى اعتباره حقلا غامضا يتوجب اكتشافه

وعن القيم التي قيل إن الملا قام بتصويرها بشكل مبتذل، كتب الصحافي السوري أحمد الناصر يقول “في (باب الحارة) تجسدت بعض تلك القيم المستهجنة في المشاهد التي صوّرت المرأة الدمشقية بالشكل الكاريكاتوري والسطحي وعديم القيمة، أو الرجل المزواج (عصام)، أو النزاعات بين الحارات الدمشقية وأبنائها (حارة الضبع وحارة الماوي، وأبوالنار والعكيد وأبوعرب)، أو (أبوجودت) رئيس المخفر الخائن العميل لـ (الفرنساوية)، أو (العكيد) أبوشهاب وعبارته الكوميدية (شكلين ما بحكي)، وغيرها من المشاهد التي تستهدف قيَم أبناء البيئة. وبذلك يكون الملا قد خدم الوعي العام بدل أن يسيء له. وليس من دليل على ذلك أقرب من شخصية (الإدعشري – بسام كوسا) الرجل الشرس واللص الذي سرق القطع الذهبية وقتل حارس الحارة، لينتهي به المطاف إلى إصابة يده اليمنى بـ(الغرغرينا) وبترها، بعد أن وضعها على المصحف الشريف وحلف بها كذبا أمام (أعضاوات الحارة). في مشهد يحاكي مشهد القَسَم الأول الذي أدّاه رئيس النظام في (مجلس الشعب) واضعا يده على المصحف”.

لو كان الملا رسام كاريكاتير أو صانع رسوم متحركة، لما طاله النقد، هو لم يقدّم سوى الصورة التي أراد رسمها ضمن رؤيته، الحارة والصراعات فيها، وأحاديث “النسوان”، وعظمة البشر العاديين سواء كانوا حمّالين أو حلاقين أو باعة خضروات.

ويبقى المشروع الكبير الذي رسّخه الملا متواصلا باستمرار حاجة السوق إليه، فالدراما الشعبية تجاوزت حاجة المشاهد إليها، لتصبح ضرورة في الشاشات والمواسم الرمضانية، محققة أرقاما غير مسبوقة تمكنت من تجاوز كل ما واجهها من تحديات لاسيما الدراما التركية المدبلجة، والدراما المصرية صاحبة الخبرة الطويلة في صناعة المتعة.

12