بريغوجين فشل في تحركه ونجح في كشف المستور

“عندما فشل انقلاب موسكو عام 1991، اتصلت بصديقتي التي أصبحت زوجتي الآن وقلت لها إن كل شيء انتهى.. فردت ضاحكة: كلا إنما هي البداية”.
هكذا بدأ رالف بولتون مراسل رويترز مذكراته عن أحداث “البوتش” الذي نظمها الشيوعيون السوفييت ضد ميخائيل غورباتشوف والذي فشل بعد 3 أيام من بدئه، ولكن عودة غورباتشوف إلى ممارسة مهامه كرئيس للاتحاد السوفياتي لم تكن كافية لتحمي الإمبراطورية من الانهيار بل إنها كانت الشرارة الموقدة للنار التي التهمت كل شيء.
هي أيضا البداية بعد فشل تمرد فاغنر بقيادة يفغيني بريغوجين، والذي كشف بوضوح الصراعات التي تجري وراء الكواليس والتي ازدادت مع مرور الوقت ومع العديد من الإخفاقات في إحراز تقدم يحسم بعد مضي عامين من دخول روسيا معركة عسكرية من المؤكد أنها لن تحدد مصير الرئيس فلاديمير بوتين فحسب بل مصير البلاد بأكملها، والتي ربما قد تتجه إلى سيناريو التغيير السياسي وخطر التقسيم في حال الفشل في أوكرانيا.
من غير المستبعد أن تكون خطوة بريغوجين مقدمة لارتفاع الأصوات ضد بوتين في الأيام القليلة القادمة من قلب موسكو
قد يرى البعض أن استعمال مصطلح التغيير السياسي أو التقسيم أمر فيه الكثير من المبالغة، ذلك لأن ما قام به بريغوجين لم يصل إلى حد تهديد وجودي للكرملين، وأن مهمة تنفيذ انقلاب على رجل ذي تكوين مخابراتي يمثل أعلى هرم السلطة أمر فيه نوع من المجازفة التي لا يمكن أن تصل بصاحبها إلا إلى حبل المشنقة، ولكن ما فعله بريغوجين كان اختراقا حقيقيا لحاجز الخوف ومخاطرة حقيقية في الوقت الذي لا تجرؤ فيه النخبة في روسيا على مجرد التفكير في إبداء الرأي ومعارضة الاتجاه الذي رسمه بوتين والذي أقحم من خلاله البلاد في جولة جديدة من حرب بدأت في 2014 بضم القرم، ولكنهم الآن يتساءلون عن كيفية نهايتها وعواقبها على المدى البعيد، خاصة أن فاتورتها المكلفة بمعدل 300 مليون دولار يوميا، إن صحت فهي تعني أن الخزينة الروسية قد تضررت بشكل بالغ وأن الشعب الروسي سيتحمل جزءا من أعباء هذه الفاتورة.
لم يأت قرار بريغوجين بالتمرد بين ليلة وضحاها، ولكن الخطوة التي لم تحسب عواقبها جاءت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، وأبانت عن تطور الخلافات بين القيادات العسكرية من جهة وزعيم فاغنر من جهة أخرى لتصل مرحلة المواجهة، فبريغوجين الذي أدرك بأن قواته تستعمل ككبش فداء حاول مرارا وتكرارا عبر تليغرام أن يمرر رسائل يعلن فيها عدم رضاه عن الطريقة التي كانت ترسم بها الخطط العسكرية، والتي كبدت قواته العديد من الخسائر المادية والبشرية، وكأن القيادات العسكرية تريد أن تنسب النجاحات إليها، وأن تتنصل من جميع الإخفاقات الميدانية على محور دونيتسك وباخموت وتنسبها إلى قيادة فاغنر. ومن هنا أتت فكرة التمرد الذي أراد من خلاله بريغوجين أن يكشف المستور وأن يوضح بأن وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد القوات المشتركة المنتشرة في أوكرانيا فاليري غيراسيموف قد وضعا مهمة إضعاف فاغنر ضمن أولويات العملية العسكرية من منطلق العداوة التي تجمعهما ضد بريغوجين.
بعد أسبوع من عملية التمرد الفاشلة أتى الدور اليوم على الجنرال سيرغي سوروفيكين الذي يخضع للتحقيق بتهمة التواطؤ مع بريغوجين، وهو ما يضعنا أمام سيناريوهات وقراءات عديدة أبرزها أن الجنرال سوروفيكين قد خطط فعلا للتآمر مع بريغوجين، وهو أمر بمنتهى الخطورة ويعني أن هذا التآمر أتى من قلب الجيش النظامي، وقد يتوالى بعد سقوط سوروفيكين سقوط العديد من الشخصيات العسكرية. وقد يفتح هذا الباب للسيناريو الثاني، وهو فرضية وجود صراع أجنحة في قلب منظومة الدفاع الروسية، منقسمة بين مؤيد ومعارض لاستمرار العملية العسكرية، وقد كان بريغوجين بطلا رئيسيا في كشف خيوط ذلك الصراع.
لم يأت قرار بريغوجين بالتمرد بين ليلة وضحاها، ولكن الخطوة التي لم تحسب عواقبها جاءت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، وأبانت عن تطور الخلافات بين القيادات العسكرية
أما السيناريو الثالث فقد يكون اعتقال سوروفيكين خاليا من أي أدلة على التواطؤ ومستندا على درجة قرابته بقائد فاغنر، وبالتالي يراد منه محاولة تخويف القيادات العسكرية المعارضة للحرب والمتعاطفة مع بريغوجين بغية إحباط أي محاولة قد تأتي في المستقبل. وأيا كان سبب اعتقال سوروفيكين فإن ذلك يعني بأن هنالك حربا خفية تجري في قلب روسيا ربما قد تمهد لحدث كبير في الأيام القادمة.
كلما ابتعدت إمكانية الحسم في حرب أوكرانيا، كلما فقد بوتين توازنه الداخلي، وزاد احتمال أن تتفجر خصومات داخلية أخرى، ربما قد يغذيها الغرب، أو ربما تغذيها المصالح الشخصية للمتضررين من العقوبات الغربية على روسيا، ولكنها في الأساس نابعة من فكرة أن بوتين الذي شرعن لنفسه الدخول في حرب يسترجع فيها أوكرانيا بحجة منعها من الانضمام إلى الناتو، لا يجد لنفسه تبريرا لحجم الكلفة التي لم تضمن شيئا في صالح الروس إلى حد الآن، ومع دخول فنلندا واقتراب انضمام السويد إلى الناتو أصبحت لدى الروس قناعة بأن شرعية الحرب في أوكرانيا لم تضمن حماية الأمن القومي الذي برر به بوتين خطوته للسير نحو المجهول.
ولهذا فمن غير المستبعد أن تكون خطوة بريغوجين مقدمة لارتفاع الأصوات ضد بوتين في الأيام القليلة القادمة من قلب موسكو.. فبعد خطوة بريغوجين وانسحابه من المأزق الأوكراني بتلك الطريقة التي جلبت العديد من علامات الاستفهام، أصبح من الواقعي للروس الاعتراف بأن بريغوجين قد كشف التعتيم الإعلامي وبروباغندا الكرملين التي أوهمت الجميع بأن كل شيء يسير على ما يرام، وأن تأخر الحسم يجري ضمن تكتيك تفهمه القيادة الروسية فقط وتفسره كيف ما تشاء، ولكن الحقيقة هي أن بوتين مجرد أسد من ورق، وأن ما فعله بريغوجين قد يكون خيانة في نظره ولكنه جرأة وشجاعة في قول الحق في نظر الآخرين.