بريطانيا: استفتاء جديد في الأفق

تتزايد عقبات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مع اقتراب موعد 29 مارس 2019. تبين من خلال الاجتماع الأخير بين المسؤولين البريطانيين والاتحاد الأوروبي أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود. المشكلة أن ذلك لا يعود إلى أمور جانبية يمكن حلها، المسألة أكبر من ذلك وتتعلق بتكشف الحقيقة: خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يلحق ضررا فادحا باقتصادها، وستكون لذلك انعكاسات اجتماعية كبيرة لا يتردد البعض في وصفها بالكارثية.
يتضح حجم المأزق البريطاني من مطالبة رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، قادة أوروبا بتخفيف الضغط على بريطانيا من أجل إتاحة فرصة لإجراء استفتاء آخر حول الخروج أو البقاء في التكتل، واتهامه من دعوا إلى الاستفتاء عام 2016 بأنهم استخفوا بقوة الترابط الاقتصادي البريطاني مع أوروبا، والتكلفة التي ستترتب على خروج بريطانيا وبأنهم يعيشون اليوم في حالة إنكار للواقع.
تذهب أكثر من نصف صادرات بريطانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي الذي يشكل السوق الأضخم لمنتجاتها. جعل ذلك عملية المفاوضات صعبة للغاية في ظل رغبة بريطانيا في الاحتفاظ بهذه المزية الاقتصادية رغم قرارها ترك الاتحاد الأوروبي. ولكن الأخير يرفض إعفاء المنتجات البريطانية من التعرفة الجمركية إذا لم تقم بريطانيا بالمثل وتسمح للعمالة الأوروبية بالتنقل بحرية وهو ما يلغي اتفاق “بريكست” من أساسه، ويعتبر تحايلا على الناخبين. وتبقى الحقيقة الاقتصادية القاتمة التي كشفت عنها دراسة حديثة صادرة عن مركز الإصلاح الأوروبي أن نمو الاقتصاد البريطاني سيكون أقل بنسبة 2.5 بالمئة من معدله في حال الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ولهذا تصاعدت الأصوات المطالبة بإجراء تصويت شعبي جديد على الخروج من الاتحاد الأوروبي. بالنسبة للمطالبين بإعادة التصويت كان طرح مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي خاطئا. مثل هذا النوع من المسائل التقنية يجب تركه للخبراء والتكنوقراط الذين يديرون الدولة، لا للجموع الشعبية المدفوعة بالعاطفة والتي يمكن أن تتأثر بحملات الأكاذيب التي ينظمها اليمين المتطرف على مواقع التواصل الاجتماعي، وتساعده في ذلك دول عظمى مثل روسيا التي ثبت تدخلها، مرارا وتكرارا، في الشؤون الأوروبية والأميركية.
المفارقة أن العامل الاقتصادي الذي يطرح اليوم من قبل حزب العمال للدفع نحو إعادة الاستفتاء كان قد استخدم من قبل لتنظيم الاستفتاء. نجح حزب المحافظين عام 2016، ومعه اليمين المتطرف، في توجيه المعاناة الاقتصادية لشرائح واسعة من الطبقة العاملة والطبقة الوسطى ضد المهاجرين أولا، ثم ضد الحدود المفتوحة بسبب التواجد داخل الاتحاد الأوروبي. يعود العامل الاقتصادي اليوم ليلقي بظلاله مجددا على الاتفاق، ويشجع كثيرين على التراجع عن رأيهم مع تبين أن المعاناة الاقتصادية سوف تزداد مع إتمام اتفاق الخروج.
لكن جذور تلك المعاناة هي في الخيارات الاقتصادية والسياسية التي اتخذتها الطبقة الحاكمة في بريطانيا، بحزبيها الرئيسيين العمال والمحافظين، والتي عمقت من اللامساواة في الدخل ومن تراكم الثروة لدى شريحة محدودة. وترافقت تلك الخيارات مع تحولات على المستوى الاقتصادي، أهمها الاعتماد المتزايد على التطور التقني الذي أدى إلى التخلي عن العمالة بصورة متزايدة.
هكذا، كانت المشاكل الاقتصادية الهيكلية نتيجة تلاقي تطور تكنولوجيا الإنتاج من جهة مع اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية تجاهلت تلك التطورات، بل وأدت إلى مفاقمة نتائجها السلبية من جهة ثانية.
ولكن الخيار الاقتصادي للطبقة السياسية البريطانية ليس مقتصرا على بريطانيا، بل هو قرار عام اتخذته الطبقة الحاكمة في معظم دول الاتحاد الأوروبي.
لقد عملت مؤسسات هذا الأخير على تعزيز سياسات عدم المساواة وتراكم الثروة وفرض سياسات مالية محددة على أعضاء الاتحاد الأوروبي. أحدث ذلك سخطا كبيرا ضد سياسات تقييد السيادة التي انتهجها الاتحاد الأوروبي وصرف النظر عن المعاناة الاقتصادية.
في وقت قريب، قد يقود حزب العمال البريطاني حملة إعادة التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي طارحا على البريطانيين، خصوصا أولئك الذي صوتوا لصالح الخروج عام 2016، سؤالا بسيطا: هل يستحق إرضاء المشاعر القومية كل تلك التضحيات الاقتصادية؟ يأمل الحزب أن يكون الجواب “عقلانيا” هذه المرة.