برلمان المتنبي

يتحول الشارع الواصل بين الرشيد ودجلة إلى مكان أثير في قلوب ومحبي الثقافة ويكاد أن يكون علامة فارقة في الحياة الاجتماعية العراقية.
فالمتنبي لم يعد مجرد شارع لبيع الكتب وسط العاصمة بغداد، بل ملاذ آمن للمتعلمين العراقيين وزوادة للثقافة العراقية.
تخطى مهمته التجارية كسوق تراثي أو مزاد لبيع الكتب وملحقاتها من ورش تعفيرها وتجليدها وتذهيبها وطباعتها بل إلى وظيفة أخرى فرضها الواقع العراقي الجديد.
واقع الصراع والموت المجاني الذي يلاحق الناس والتفجيرات التي طالت الكثير من الأحياء والأمكنة، وطالت هذا السوق أيضا.
ولكي أصل الشارع كل يوم جمعة كان عليّ أن أعبر النهر من كرخ بغداد نحو رصافتها بقارب صغير أنا ومجموعة من مرافقيّ الذين فارقتهم سنين، لألتقي الحشود من الأصدقاء الذين تقاطروا على المتنبي.
وهالني نوع وعمق الأحاديث التي كانت محرّمة بل تلج كل المحرمات السياسية التي اعتدتها، تبحث في رواتب البرلمانيين والوزراء وفسادهم وسرقاتهم إلى تفكيك تصريحات المسؤولين وثراء أولادهم، إلى الاجتماعات التحضيرية لانتفاضة مقبلة يحضّر لها حراك التظاهرات، من بعض مرتادي المتنبي بجلسات علنية يجري التخطيط لها علنا لكيفية القيادة والسيطرة على المظاهرات المقبلة، ومن أين تنطلق وإلى أين تسير، وكيف يجري التعامل مع أجهزة السلطة ومقاومة قمعها المتوقع.
كنت أتأمل وأرى وجوها لشباب أكاد أعرف بعضهم والكثير لا أعرفهم، ينتمون إلى مدن وقصبات عراقية تمتد من زاخو حد الفاو، يتناقشون علنا ولا يبالون بالسلطة والدرك ولا بالمندسين بينهم.
يقيّمون تظاهرات الأمس وإخفاقهم فيها، وسبل فك الأسيجة الشائكة، حتى أن الكثير منهم صاروا رموزا في احترافهم لفن التظاهر.
وجدتني أصغي لصوت يعلو يُذكر بضحايا التظاهرات والمختفين فيها والمحتجزين وكيف يخططون لإطلاق سراحهم ومساعدة ذويهم، ويستشهدون بصمود الشعراء السابقين والكتاب الثوار، أبطالهم المتنبي معارضا والحلاج شهيدا مصلوبا معلقا، يدهن وجهه بدمه كي لا يشمت أعداؤه بشحوبه والجواهري رمزا.
ويذكّرون بأن المجتمع انقسم بين أقلية في سلطة غاشمة سارقة تعيق حياتهم وتسعى لقمع أصواتهم يعدّونها مسميات جاءت بالتزوير وتحت قمع الأحزاب وحراب الميليشيات في قبالة الناس الفقراء والمعدمين والمغيّبين، الذين حُرموا من العيش الكريم.
أصواتهم تعلو لتشق الشارع الصغير الكائن بين شارع الرشيد ونهر دجلة وبمسافة أقل من كيلو متر مربع، لكنه أضحى بؤرة للمعارضة الشعبية والحوار لغير المبالين بثوابت وإرث قمع السلطات.
إنه برلمان حقيقي يناقش كل شيء ويقرأ أي شيء ولن يتوانى عن فعل أي شيء!
في سبيل تذكير الناس بأن الوطن ومثقفيه رافضون لما يجري لإدارة البلاد والعباد، حتى فرضوا أمرا واقعا يشي بأن للحرية والديمقراطية ثمنا تدفعه السلطة أيضا وهو ثمن باهظ.