برد يولد حروف الوحشة
عضّات الحزن، مثل عضّات برد العجوز. حزن لا تُعرَف منابعه. خرجتُ إلى باب الدار، فاستقبلني مصلّح كدمات البرادات العتيقات، بابتسامة طولها سبعة حلوق وربع وجه. قرأتُ في عينيه الناطّتن ، محاولة جبانة لافتراسي بأسنان الأسئلة. هو كائن مسالم من الصنف الذي يسألك سؤالاً، لكنه لا ينطر إجابتك، بل يعززه بسؤال ثانٍ.
كنتُ اشتريتُ منه قبل عشر سنين، ثلاجة تكمة تشتغل بالغاز. أقصد عنتيكة. عنتيكة كلمة إنكليزية، معناها الشيء العتيق الذي تسميه الافرنجة انتيكة، أو التراثي، لكن ليس التأريخي بكل تأكيد، كما علّمني إياها، المعلِّم الطيب جوزيف عبدالأحد، قبل أربعين سنة. صحة الثلاجة ومتانتها ورخص سعرها، هي أسئلة أزلية نابتة راسخة في مخِّ جاري المصلّح. عصرية اليوم، كانت دموية وموحشة بحق. الشمس تغطس خلف فندق الرويال الفخم، فتصبغ بقايا أشعتها، الغيومَ بلون ناريٍّ، وتصيّرها جحيماً طائراً.
المنظر ينبشُ عميقاً في الذاكرة. من أثاث الشرفة، ثمة أقفاص العصافير. مساحة النزل صغيرة، والعصافير هنا، مثل حديقة مفترضة. تبيض العصافير وتفقّس وتطلق سقسقة جميلة. كنتُ أريد رسم السقسقة على صورة زقزقة، لكنني تخليتُ عن الفكرة. يحدث أن يفطس كناري القفص الملون الذي يعشقه نؤاس وعلي الثاني، فيمنحني فرصة بناء مرثية خالصة مميتة.
الكتابة صارت متعبة، مع نظّارة مضببة مغبشة ببخار الخشم. واسيتُ نفسي كثيراً، وتذكرتُ نظّارة المصوّر فؤاد شاكر، فهانت المصيبة وانطمرتْ. قبل سنة، حدث معي الأمر نفسه. شلتُ نظّارتي المعطوبة، وولّيتُ وجهي صوب دكان صغير، يبيع ويصلّح النظّارات. لا عظيم فرقٍ بين مصلّح النظّارات ومصلّح الثلاجات، إلّا بحجم الابتسامة. قال إنَّ الأمر بسيط. برغي فالت سائف وسنعيده إلى غمده. شكرتُ الرجل كثيراً وسألته عن كلفة صنيعه، فأبى أن يكلّفني قرشاً أحمرَ. كانت بي رغبة كاسرة في أن أُخبره بأنني كاتب قصة قصيرة، لكنني عدلت عن ذلك في اللحيظة الأخيرة من زمان الرغبة، بعد أن تيقنتُ من أنها فكرة سخيفة.
الصحيح هو أن ليس من حقّي أن أكرهها. جاك سافل وشرير وحقير. أنا أفتقد وجه هيلين الليلة الباردة.