براغماتية العلاقات الافتراضية تنزاح بأهداف الإعلام الاجتماعي

إذا كنا قادرين على استعمال بنّاء للإعلام الاجتماعي فإننا حتما سنستغل الوجه الإيجابي للعلاقات الافتراضية.
الأحد 2018/07/22
استعمالات "سيئة" لمواقع التواصل الاجتماعي

دائما في ظل هيمنة الوسائط الإعلامية على حياتنا الخاصة والعامة، بواسطة منصات التواصل الاجتماعي المتعددة، وأخصّ بالذكر منها منصة فيسبوك أشهرها على الإطلاق وأكثرها منخرطين ومستعملين، تُطرح العديد من القضايا والمواضيع الخلافية التي تصل الآراء فيها حدّ التناقض الصارخ أو المفارقات الغريبة التي تجمع المتناقضات نفسها.

من ذلك أنّ موضوع العلاقات الافتراضية على شبكات التواصل الاجتماعي يتجدّد طرحه باستمرار ومن زوايا متعددة، ولعلّ الزاوية التي كانت نتوءا بارزا وأمرا لافتا هي أن أغلب هذه العلاقات والتي تُسمى علاقات صداقة لا علاقة لها إطلاقا بمفهوم الصداقة وما يترتب عن ذلك من التزامات قيمية وأخلاقية بالمفهوم الاجتماعي طبعا، إلا ما ندر، ولا نتحدّث هنا عن علاقات الأقارب والصداقات الفعلية التي تنتجها علاقات الزمالة في الدراسة أو العمل، لأن مثل هذه العلاقات موجودة فعليا في الواقع المعيش وربما يكون دور الفيسبوك أو تويتر أو إنستغرام دافعا لتجديدها أو إحيائها بعد فتور دام سنوات.

الظاهر للعيان وعبر الممارسة أن نسبة عالية ومحترمة جدّا من مشتركي ومستعملي وسائل التواصل الاجتماعي تعقد علاقات افتراضية انتهازية في مجملها، فهناك من يعقدون صداقات فيسبوكية عديدة ويرسلون طلبات الصداقة إلى كل مستخدمي فيسبوك الذين يمكنهم الوصول إليهم عبر أصدقائهم، لتضخيم الرقم لا غير والتباهي بعدد الأصدقاء والمتابعين لصفحاتهم، وهي “هواية” المهووسين بالشهرة والباحثين عن ملء الفراغ.

أما الصنف الثاني من مستعملي وسائط التواصل الاجتماعي فيمتهنون نوعا من “الاستغفال” أو “الاستبلاه” لأصدقائهم الافتراضيين فيتخيّرون أناسا معيّنين من المستخدمين يختلفون من حيث التكوين العلمي والفكري والاجتماعي ومن حيث المراحل العمرية، ويوهمونهم بشكل ما بأن اختيار صداقتهم كان لأجل اختلافات في شخصياتهم أو لقناعتهم بالمعاني القيمية والأخلاقية النبيلة للصداقة ومن منطلق دفاعهم عنها.

 ولكن الحقيقة تختلف كليا، فمن الذكور من يصطفون أصدقاءهم الافتراضيين -خاصة من النساء- ليس لأجل علمهم أو ثقافتهم أو مواقعهم الاجتماعية أو السياسية، ولكن لأجل ملامح وجوههم وهيئاتهم وصورهم “السيلفي”.

على ذكر هذا الموضوع بالذات هناك من يرسل أو ترسل لك اقتراح صداقة ثم بعد تعارف قصير يُطلب منك معروف (مال أو بطاقة شحن)، وتُسرد “مأساة” عناصرها متعددة كاليتم وضيق ذات اليد أو وجود خلاف عائلي أو مشكلات صحية أو غيرها من السناريوهات المؤثرة، والتي تستعمل للتأثير في نفسية المتلقي والسيطرة على عواطفه الإنسانية، إنه نوع من الانتهازية يدخل في إطار “تعليب” العلاقات الاجتماعية وإفراغها من معانيها الروحية والأخلاقية.

وإذا لم يُجْدِ أسلوب الاستعطاف هذا يمرّ هؤلاء إلى مراحل أخرى تتمثل أساسا في الإغراء عن طريق الصور أو المناشير التي قد تكون بإيحاءات جسدية أو جنسية، أمّا غاية كل هذا فلا تتعدى كونها مصلحة مادية تُطلب من أناس “افتراضيين” ويأمل أصحابها في الحصول على مبتغاهم، غير مهتمين بما قد يسببونه من إحراجات للطرف المقابل.

هذا النوع من العلاقات الافتراضية والتي تسمى جزافا “علاقات صداقة” ليست سوى الوجه السيء مما منّت به علينا التكنولوجيا الحديثة، وبات هذا الصنف من العلاقات ينفر مستعملي هذه الوسائط أكثر من توطيد العلاقات الاجتماعية بمعنى “التثاقف” في مفهومه العام والشامل.

لقد انزاح المستعملون لوسائل التواصل الاجتماعي بالأهداف الحضارية والتثقيفية والإخبارية التي من المفروض أن تؤديها هذه الوسائل، فعلى قدر ما امّحت المسافات بين الأفراد والشعوب والأمم وبقدر حجم المنشورات اليومية التي تنشر على صفحات هذه الوسائط وبقدر حجم عدد مشتركيها، إلا أنها حادت أحيانا عن مسارها الإيجابي لتصبح مجرد مضيعة للوقت، فما الذي ينتظره مثلا كبار السن والمثقفون والنخب بصفة عامة من عقد مثل هذه العلاقات؟

لا يمكن عزل ما يجري على صفحات التواصل الاجتماعي عن السياق العام للمسار الثقافي والأخلاقي والحضاري عموما، كل شيء بما فيه الثوابت الأخلاقية والاجتماعية أضحى يخضع لـ”التعليب” و”التشييء” في ظل طغيان البراغماتية -وهي بالتحديد من منتجات الرأسمالية والنظام العالمي الجديد- هذه البراغماتية تطورت لتصبح انتهازية فجّة، أضرت بالثوابت الاجتماعية المترسخة وطال أثرها حتى داخل الأسر التي تفكك البعض منها بسبب ممارسات فيسبوكية “صبيانية” لا فائدة ترجى من ورائها.

وعلى عكس كل هذا فإن للاستعمال الواعي للوسائط الاجتماعية فوائد أسرية واجتماعية جمّة؛ أولا تثقيفي في مجالات العلوم والتقنية والفنون والآداب، من ذلك على سبيل الذكر لا الحصر انتشار منخرطي المجموعات في أعداد محترمة جدّا بالآلاف. وثانيا إخباري بما أن هذه الوسائط أصبح منسوب الأخبار فيها عاليا جدّا دون اعتبار لصدقيتها أو زيفها وهذا موضوع آخر.

أما ثالثا فهو اجتماعي يتجسّد في ترسيخ الثوابت الأخلاقية ولعل أهمها قيمة الصداقة من أجل التعارف الإيجابي والمثمر دون براغماتية أو انتهازية.

إذا كنا قادرين على استعمال بنّاء للإعلام الاجتماعي فإننا حتما سنستغل الوجه الإيجابي للعلاقات الافتراضية.

21