بدائية السعادة

من علامات صراع الأدب والفن مع مجتمع القيم، انحياز الأعمال الإبداعية للنهم الفردي، ذلك الاختلال الذي لا تفلح الحضارة في نزع أصوله البدائية، ولا مداراة جوهره الوحشي، يمكن في لحظة ما أن نرى في روايات من مثل “الموت في البندقية” لتوماس مان و”نادجا” لبروتون، و”مدار السرطان” لهنري ميلر، تجديفا على نزعة الانتماء الجماعي الصارم للحضارة، وقواعدها ومحرماتها وقيودها، ولعل ما تريد أن تقوله هذه الروايات، ومثيلاتها، أن العقلانية والأخلاق والتطلع إلى مجاوزة الشر الشيطاني، لا تضمن تحقق السعادة، التي هي في جوهرها زيغ عن مواضعات الفضيلة، وتواؤم مع الشطط الحسي.
لهذا غالبا ما يكون للإدمان والانحراف الجنسي، وتمريغ آداب اللباس والطعام والحديث، وهجاء منظومة العمل المنظم، وتبجيل الفوضى، ملامح مشتركة لعدد كبير من تلك النصوص الروائية الكبرى، التواقة إلى كشف ما أسماه المركيز دو ساد ذات يوم بـ”الرغبة في الحرية”. ليس لأنها أعمال منحرفة في العمق، وإنما لأنها تتوق إلى تعرية الصراع اللاإرادي للإنسان مع التمدن، وما يقتضيه من تضحية بجوهر السعادة، إنها المقابل الطباقي لمئات نصوص الخيال العلمي التي تصور ذروة الحضارة بوصفها معانقة للموت.
في أواسط القرن السابع عشر كلفت الكنيسة الفنان بول فيرونيز برسم صيغة جديدة للعشاء الأخير للسيد المسيح، فرسم لوحة لمأدبة طافحة بالطعام والخمر يلتئم حولها رهط من الأكلة المنتشين، كانت لوحة غارقة في نهم بدائي للتناول والمنادمة، ولا تخلو من فضائحية، كان إدراك الرسام البندقي لقداسة اللحظة الأخيرة قبل المغادرة إلى الصلب، دنيوية ومرحة، لأنه لم يكن شخصا آخر إلا ذلك البدائي المأخوذ بفتن الحواس.
هل كانت اللوحة ضد الفضيلة؟ محتمل. وهل كانت ضد الاعتقاد الكاثوليكي؟ لا شيء في تفاصيل اللوحة يوحي بتجديف من درجة ما. لكن الشيء المؤكد أنها كانت ضد الطهرانية، والنزوع الجماعي إلى تأثيم اللذة. لهذا لم يكن غريبا أن يُستدعى بول فيرونيز للمثول أمام محكمة التفتيش المحلية، للتحقيق في جوهر اعتقاده المسيحي، ومقاصده من الصيغة التصويرية غير المحافظة.
وبتعبير آخر الكشف عن نزوعات خروجه عن تمثل مجتمع الحضارة (الكاثوليكية) إلى الإحساس الفردي باللحظة المقدسة. لحسن الحظ أن المحكمة لم تكن متزمتة بالقدر الذي يلقي به في المحرقة، واكتفت بتوبيخه. لكن الحادثة في مجملها تعيد تمثيل الوحشية والقسوة الشديدة التي يبلغها المجتمع في نزوعه إلى تمثيل القيم والقواعد والنظام، في مقابل قمع التطلع الفردي إلى تبجيل اللذة والفرح والسعادة.