بارانويا الآباء

هل تقبيل الآباء لأفواه أبنائهم صحيح أم خطأ؟ كواحدة عاشت أكثر من نصف حياتها في ثقافة غربية لا يمكنني إلا أن أقول إنه خطأ، فالعلاقات هنا تمشي على حافة السكين، ويمكن لأي حركة بسيطة أن تفسر على أنها تحرش. الجسد منطقة شخصية جدا، لا يجب الاقتراب منها أكثر من اللازم، وأذكر أن أول درس تلقيته في بيئتي الجديدة هو أن اترك مسافة متر بيني وبين متحدثي مهما كانت علاقتنا.
وقد نرى في ثقافتنا العربية صديقتين متعانقتين، أو أختين تحيط إحداهما خصر الأخرى بذراعها، وقد نرى صديقين يمسكان بأيدي بعضهما أو يجلسان وكتفاهما أو ركبهما متلامسة، إلا أن هذا المشهد نادر جدا ومثير للريبة في الثقافة الغربية التي تحيط الجسد بسور عال، لا للاقتراب منه.
ولا أعرف سر هذا الخوف من الآخر، وهذا الإصرار على خصوصية الجسد وعدم التماس معه، ولكنه بدأ على حد علمي مع الثورة الجنسية في ستينات القرن الماضي التي أعادت ملكية الجسد إلى صاحبه ومنحت سلطة التحكم فيه لمن يملكه فقط.
عندما أرى أبا يقبل ابنته في فمها أشعر بالانزعاج، رغم ما تبدو عليه الصورة من حنان. كما أشعر بانزعاج من انزعاجي. فأنا أفضّل أن لا تخطر أفكار سيئة على بالي وأنا أنظر إلى صورة عائلية دافئة، إلا أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من تصور الاحتمالات، وهو تصور قد يبدو مرضيا للبعض، أو نابعا من ذاكرة مشوهة.
لم أمر بتجارب مشابهة وأشكر الحياة على ذلك، لكنني حضرت مشهدين في طفولتي المبكرة لأبوين يعانقان طفلتيهما بشكل بدا لي مريبا: الأب الأول قبّل ابنته الرضيعة في عضوها التناسلي، والأب الثاني كان يستلقي على ظهره ويضع ابنته ذات الثلاث سنوات على بطنه ويحركها ذهابا وإيابا فوق منطقة الحوض! كرهت الأبوين وعلاقتي بهما ظلت معطوبة في ما لحق من حياتي، ولم أستطع أن أتصالح مع ما رأيته، وقد أكون ظلمتهما، وقد يكون ما رأيته ليس حقيقيا تماما، لكنه يقترب من الحقيقي، أو حتى يناقضه، لكن ذاكرتي الطفلة وخيالي الطفل وضعا المشهدين في زاوية “الممنوع” وانتهى الأمر.
منذ أيام رأيت صورة لأب يقبل فم ابنته الصغيرة وهو في لباسه المنزلي، وخيل لي أن شيئا منفرا يطل برأسه، شيء قد لا تكون له علاقة بالقبلة نفسها، ولكن باختلال الأحجام، وبالتناقض بين الأجساد بين قوية وهشة، صغيرة وكبيرة، نصف عارية ومغطاة، وأيا كانت ملاحظاتي على الصورة فقد شعرت بالذنب مجددا لأنني نفرت من صورة أبوية دافئة كهذه. ومرة أخرى علي أن أعترف، للأسف، أن العلاقات البشرية معقدة أكثر مما نتخيل، وعلينا أن لا نترك شيئا للصدفة، للاحتمال، لأنه مهما بلغ خيالنا من مرض، إلا أن الواقع أشد مرضا، وما الخيال إلا جزء بسيط جدا منه.
حكت لي زميلة، وهي زوجة وأم لطفلين أنها تشعر بالحزن كلما ذهبت لزيارة أبويها لمدة ساعة أو ساعتين في الشهر، ووصل معها الأمر حد استشارة طبيب نفسي لتكتشف بعد حصص علاج بالتنويم المغناطيسي أن والدها كان يلاعبها في أماكن حساسة من جسدها تحت الدش!. وقد يكون الأب بريئا من أي اعتداءات جنسية، لكن خيال الطفلة تضرر إلى الأبد وعلاقتها بوالدها اختلت بسبب ممارسات لم تستطع أن تجد لها مكانا داخلها.
لست ضد القبلات الأبوية، لكن الأطفال يكبرون، والصبية ستصبح امرأة بتجارب وتشوهات وإحباطات عديدة، وسترى العالم من خلالها، وستعيد ترتيب علاقاتها وفقها.
شخصيا لا أترك مجالا للصدفة أو الخيال، ومجرد اقتراب ابني المراهق مني إلى حد ما، يجعلني انسحب آليا إلى ما وراء حدود مربع الخصوصية. هل يبدو الأمر كما لو أنه بارانويا مضحكة؟ ربما أصبحت بعض أنواع البارانويا الجديدة مفروضة علينا في ظل التشوهات المجتمعية والأخلاقية وحركات الاحتجاج التي تظهر كل يوم.