انجذاب متبادل بين مصر ولبنان

دولة مثل مصر يصعب عليها أن تظل بعيدة عن لبنان وإن بدا ذلك للبعض فلبنان رئة في المنطقة لا يمكن الاستغناء عنها وهو بلد يلعب دورا في ضبط التنفس الإقليمي.
الثلاثاء 2025/05/27
قائدان عسكريان يعملان على حفظ الأمن والاستقرار

لمصر حصة سياسية من لبنان قد لا يعلم تفاصيلها الكثيرون، ومع أن دورها لم يكن ملموسا في الكثير من التطورات التي جرت على الساحة اللبنانية، غير أن القاهرة لم تفرّط في حصتها المادية والمعنوية وحرصت دوما على عدم فقدانها، على الرغم من العواصف التي مر، ولا يزال يمر، بها هذا البلد، وجعلته مكانا لتجاذبات قوى إقليمية ودولية، وهو دليل على أهمية حيوية يحتلها لبنان في عقل العالم وقلبه.

ويصعب على دولة مثل مصر أن تظل بعيدة عن لبنان، وإن بدا ذلك للبعض، فلبنان رئة في المنطقة لا يمكن الاستغناء عنها، وهو بلد يلعب دورا في ضبط التنفس الإقليمي.

عكست زيارة رئيس لبنان جوزيف عون إلى القاهرة قبل أيام، جانبا من نظرية الحصة المصرية، كما أسفر اللقاء الودي مع الرئيس عبدالفتاح السيسي عن تفاهمات في مجالات عدة، يمكن أن تظهر تجلياتها الفترة المقبلة، بعد أن تخطت بيروت جزءا من العقبات المتناثرة في طرقاتها، وعلى وشك أن تتخلص من بعض القيود التي كبلت حركتها الإقليمية، وثمة تصورات لإعادة صياغة معادلة داخلية وخارجية محكمة.

لم يظهر في العلن خلال السنوات الماضية أن لمصر دورا ملموسا في لبنان وما يكتنفه من تعقيدات سياسية وأمنية، وهذا لا يعني أن القاهرة بعيدة عن بيروت وما جرى في كواليسها، وربما كانت مصر من الدول القليلة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع غالبية القوى المتنافرة والمتصارعة، ولم يتم ضبطها منحازة إلى طرف على حساب آخر، أو شاركت في الألعاب القذرة فيه، وهذا يضفي أهمية لإمكانية مشاركة مصر في ترتيبات ينتظرها لبنان، بالتعاون مع أطراف ترغب في استقراره، ما يجعل القاهرة مهيأة سياسيا لتكون لها بصمة واضحة في المرحلة المقبلة.

◄ الوضع المثير بدمشق يصب في مصلحة بيروت، إذ يصعب على أيّ قوة إقليمية أن تكون نائية عنهما معا، ما يضفي أهمية مصرية لمنح لبنان المزيد من التركيز

ما يعرف عن مصر أنها تدعم المؤسسات النظامية في أيّ دولة عربية، وترفض أيّ نتوءات جانبية أو دور لميليشيات وكتائب مسلحة أو قوى متمردة، وتحذيراتها من مغبة انهيار الجيوش العربية ليست خافية، وكل الدول التي سقطت في صراعات بسبب تفسخ جيوشها، لم تتمكن من إعادة بنائها مرة أخرى.

ما يقوم به الرئيس جوزيف عون بشأن فرض سيطرة الجيش على كل لبنان، يتسق مع الهدف المصري في دعم الجيوش العربية، وهو ما يخلق مساحة جيدة بين القاهرة وبيروت، وتحتاج كلتاهما إلى الأخرى في هذه المسألة، بشكل يفتح نوافذ أمل للتعاون في مجالات عدة، لأن دعم الجيش اللبناني بات هدفا إقليميا ودوليا، في دعمه أو تفشيله.

تسهم الأجواء الإقليمية في توسيع دور مصر في لبنان، وتحويله من هامشي إلى محوري، ليس فقط من الزاوية السابقة (دعم الجيوش)، لكن لأن هناك ترتيبات تجري في المنطقة، على إثرها قد تخرج قوى وتدخل أخرى، كنوع من الردع الإقليمي أو سد الفراغ المحتمل، فإيران التي هيمنت على مفاتيح الحل والعقد في لبنان فترة طويلة غير مرغوب فيها، وتجري عملية حثيثة لتقليم أظافرها في المنطقة.

كما أن السعودية، لها نفوذ كبير، تبدو غير معنية كثيرا بتفعيله، وتجد في التركيز على سوريا ساحة تكسبها مكانة أكبر في المنطقة، وقد تصبح دمشق أداة رئيسية تمكن الرياض من التحكم في ملفات عديدة، وهو حال تركيا التي لم ترث نفوذا واسعا في لبنان، ونجحت في خلقه داخل سوريا، فأنقرة لا تريد صداما مع قوى إقليمية في هذه المرحلة، ومركز إبصارها ينصبّ على دمشق التي تراها نافذتها على المنطقة.

ومهما بلغت عمليات إسرائيل من قسوة في لبنان، لن تمكّنها من خلق أمر واقع يساعدها على وجود نفوذ كبيرلها  في بيروت، وتكتفي في هذه المرحلة بأنها تخلصت من عبء حزب الله، ولن يضيرها قيام الجيش اللبناني بفرض سيطرته على الجنوب، بل يدعم خطابها المعلن الآن، لإنهاء عقدة حزب الله، وربما تظهر إشكاليات مع الجيش مستقبلا مع إصراره على انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي اللبنانية، وهي عملية معقدة قد تحدث في سياقات إقليمية تعمل عليها الولايات المتحدة، خاصة بتطبيع أكبر عدد من الدول العربية لعلاقاتها مع تل أبيب، والمعروفة باسم الاتفاقيات الإبراهيمية.

◄ عكست زيارة جوزيف عون إلى القاهرة، جانبا من نظرية الحصة المصرية، كما أسفر اللقاء الودي مع الرئيس السيسي عن تفاهمات في مجالات عدة، يمكن أن تظهر تجلياتها الفترة المقبلة

تُوجد البانوراما التي نشهد معالمها في لبنان واقعا ملتبسا، قد يكون مفيدا لكل من القاهرة وبيروت، ومع أن زيارة الرئيس جوزيف عون إلى مصر لم تنل حظها من الاهتمام العربي، إلا أن نتائجها سوف تتوالى على المدى المنظور، إذا نجح الرجل في استثمار علاقته الجيدة مع الرئيس السيسي، فهما قائدان عسكريان، ويعمل كلاهما على حفظ أمن بلده واستقراره في خضم عواصف متقلبة، تمر بها المنطقة منذ سنوات، لم ينجُ منها سوى مصر ولبنان، وللحفاظ على هذه الحالة يجب تبني مواءمات حكيمة، تأخذ في حسبانها ما يدور من تطورات لم تعهدها المنطقة من قبل.

ولا يعني ابتعاد مصر نسبيا عن سوريا أنها سقطت من حساباتها، فمهما جرى من توتر أو خلاف تظل دمشق ذات أهمية إستراتيجية، لكن التطورات الراهنة في دمشق فرضت وضعا جديدا على القيادة المصرية، لا يجعلها تُقدم أو تُحجم بقوة إلى حين حدوث تحولات تشير إلى أين تتجه الأوضاع في سوريا؟

ويصب الوضع المثير بدمشق في مصلحة بيروت، إذ يصعب على أيّ قوة إقليمية أن تكون نائية عنهما معا، ما يضفي أهمية مصرية لمنح لبنان المزيد من التركيز، وتزداد فرص النجاح مع وجود مشتركات عدة بين القاهرة وبيروت حاليا.

لتكون العلاقة بين مصر ولبنان أكثر فاعلية، على كليهما أن يتبنى رؤية واضحة بشأن ما يريده من الآخر في هذه المرحلة الحرجة، ولإحداث نقلة نوعية من الضروري البناء على علامات الجذب الموجودة – الخاملة بينهما – وتعظيم التعاون بين المؤسسة العسكرية في البلدين، كنواة يمكن الانطلاق منها لعلاقات جيدة.

وفرض الجيش اللبناني سيطرته على الجنوب، ونزع سلاح حزب الله، من أهم العوامل التي على أساسها يتحدد مصير الدولة، والأنظار مشدودة إلى هذه المسألة، وما يمكن أن تسفر عنه من تداعيات، فالمعركة مع القوى الموازية في لبنان طويلة، وإذا كان هناك حكّام كثيرون تعايشوا معها، فإن الأوضاع الراهنة لن تسمح بتكرارها.

قد تكون مصر بعيدة عن الترتيبات الداخلية في لبنان، لكن رؤيتها رافضة لتضخم القوى الموازية، خاصة المسلحة، التي تبدو تصرفاتها كفيلة لتفقد أيّ دولة توازنها وتكبّد هياكلها خسائر فادحة، وهو ما تريد مصر إنقاذ بيروت منه، والذي سوف يمهد الطريق أمام توسيع حصتها السياسية في لبنان.

8