انتكاسة حزب الله تقود إلى تحولات إقليمية معاكسة لهزيمة 1967

القاهرة - شبه بعض المراقبين المرحلة التي يمر بها تيار الإسلام السياسي في المنطقة بعد الانكشاف العسكري غير المسبوق لحزب الله اللبناني بما تعرضت له الجيوش العربية من هزيمة مُدوية في عام 1967، والتي قادت إلى تحولات كبيرة أهمها تراجع حضور تيار القومية العربية وبداية بزوغ الجماعات الدينية التي طرحت نفسها آنذاك كبديل مُنقذ للأمة.
وأحرز تيار الإسلام السياسي نجاحا نسبيا في نشر أفكاره والترويج لبرامجه من منطلق كونه البديل عن الحالة العربية المتردية وغير الجديرة بمجابهة التحدي الحضاري وخوض معركة الوجود واسترداد الحقوق ضد إسرائيل، وهو ما تُوج بدعايته المضادة عقب اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979، وهو نفس العام الذي اندلعت فيه الثورة الإيرانية لتشكل إلهامًا مضافًا للإسلاميين حول العالم، ما كرس تراجع دور القومية العربية والأفكار التقدمية.
وفي حين ظل الوجدان العربي مُقدرًا للنقطة المضيئة في تاريخ العرب الحديث عندما عبر الجيش المصري إلى الضفة الشرقية من قناة السويس، محررًا لصحراء سيناء بالتنسيق مع الجيش السوري، استلهم واضعو خطة هجوم طوفان الأقصى بعض تكتيكات حرب أكتوبر 1973، في محاولة للحصول على شرعية تمثيل الأمتين العربية والإسلامية بعد رسوخ قناعة لدى الإسلاميين مفادها أنهم ماضون باتجاه التهميش والعزل.
وأتت رمزية اختيار التوقيت (يوم السابع من أكتوبر) عقب يوم واحد من النصر العربي الذي مر عليه نصف قرن، علاوة على اعتماد فكرة اجتياز حاجز إسرائيلي حصين، واستلهام فكرة تنويع الجبهات بين غزة والجنوب اللبناني على ضوء الإدراك الذي ترسخ لدى دارسي تكتيكات الحرب بشأن دور القتال على الجبهتين السورية والمصرية في إحراز الانتصار.
تراجع الجماعات الدينية يمهد لمسار جديد مختلف عما جرى بعد نكسة الجيوش العربية في عام 1967
وانقلبت آمال محور المقاومة التي كشفتها خطة عملية طوفان الأقصى إلى ما يشبه هزيمة يونيو 1967 بدلًا من إحراز انتصار كإنجاز أكتوبر 1973، حيث لم يحدث عبور وتحرير لأرض محتلة، فيما باتت غزة في عداد الأرض المحتلة وجرى القضاء على الجزء الأكبر من قدرات حماس العسكرية، وتاليًا.
وتكمن قسوة الضربة في رمزيتها حيث استهدفت أهم الشخصيات المؤثرة خلال السنوات الماضية بالشرق الأوسط وفي العالمين العربي والإسلامي، فلم ينحصر دور حسن نصرالله وتأثيره بالداخل اللبناني كمتحكم في المشهد السياسي والقرارات السيادية، إنما تحول حزب الله تحت قيادته إلى قوة إقليمية بدعم رئيسي من إيران، مُؤسسًا الرمزية التي تؤشر على ثقل الحزب وثقل إيران الإستراتيجي، وهي المكافئ لرمزية الرئيس المصري جمال عبدالناصر في الحالة العربية.
وكان استهداف حسن نصرالله، بما كان يحظى به من مكانة وحماية متقدمة، بمثابة رسالة من تل أبيب إلى كل قادة ميليشيات الإسلام السياسي الشيعي في اليمن وسوريا والعراق تفيد بأنهم غير بعيدين عن الاستهداف في أي لحظة، ما تسبب في اهتزاز الثقة بين فصائل الإسلام السياسي الشيعي وزعمائها.
وبات حزب الله أمام مرحلة فارقة، فإما أن يستعيد قواه سريعًا ويثأر لكرامته العسكرية المُهانة، وهو ما يتطلب ردًا فائقًا ومزلزلًا على إسرائيل، أو أن يكرس صورة الكيان الصوتي الذي خدع قواعده والجماهير العربية والإسلامية بشعارات براقة فارغة في حين لا يملك أي قوة حقيقية على الأرض تجعله قادرًا على حماية نفسه وقادته وقاعدته الشعبية، ما سيعد نكسة مُدوية لحزب الله ولمجمل تيار الإسلام السياسي الشيعي والسني، مكافئة لنكسة الجيوش العربية في منتصف الستينات.
ومن المستبعد أن يسترد حزب الله عافيته الميدانية سريعًا، ناهيك عن امتلاك القدرة على تنفيذ هجوم نوعي مضاد، بالنظر إلى أنه خسر خلال أسبوعين فقط كبار قادته العسكريين وفي القلب منهم قائده التاريخي وملهمه الروحي حسن نصرالله، فضلًا عن فقدانه خدمات صفوفه المتوسطة بعدما قُتل أو أُصيب عدد كبير من مسؤوليه حيث استهدفت أجهزة النداء المتفجرة الكثير من قادة الصف الثاني والثالث.
إسرائيل تباشر تقويض ما بقي من بنية حزب الله العسكرية بعد أن قضت على غالبية قادته وفي مقدمتهم حسن نصرالله
وخُصصت أجهزة النداء للمقاتلين ذوي المهام الخاصة فيما احتوت الشحنة المتفجرة على خمسة آلاف جهاز نداء، ما يعني نجاح إسرائيل في تحييد غالبية القوة القتالية للحزب، قبل أن تبدأ عملية عسكرية برية محدودة في الجنوب اللبناني، بعد أن اطمأنت تل أبيب إلى أن حزب الله بات أكثر تقييدًا وأقل ردعًا من أي وقت مضى.
وخسر حزب الله في غضون أيام غالبية قوته الضاربة من الصواريخ التي استهدفتها إسرائيل عبر ضرب منصاتها وقواعد إطلاقها ومناطق تخزينها، وخسارته لنظام اتصالاته الفعال ما أفقده القدرة على التنسيق والاستجابة وإدارة المهام اللوجستية، ومع غياب نظام اتصالات فعال وسريع تتراجع بشكل كبير قدرة الحزب العسكرية على خوض الحرب.
ولا تقتصر النكسة على فصائل وكيانات الإسلام السياسي وميليشياته إنما تطال إيران التي تُعد بمثابة المركز المستفيد من جميع هذه الأذرع خاصة حزب الله الذي ظلت تفرض من خلاله توازن رعب مع إسرائيل وداعميها الأميركيين، كما تفقد الدرع المتقدم الذي شكلته عن بعد لوقاية أمنها القومي، ما خلق على مدار عقود ستارًا للسلوك الإيراني المتمرد وأعطى طهران القدرة على النكران والتهرب من المساءلة، ومنحها أوراقًا للتفاوض والمساومة على ملفاتها الرئيسية مع القوى الدولية.
ولا تملك إيران الكثير من الخيارات، وتشجع من جهة وكلاءها في المحور على الصمود ومواصلة القتال لتقليص الخسائر وتحسين فرصها الإستراتيجية والحيلولة دون انكشافها مع برنامجها النووي أمام الاستهداف الإسرائيلي، ومن جهة أخرى تمتنع عن توجيه ضربة قاسية انتقامًا لحسن نصرالله وقبله إسماعيل هنية وتصدر خطابًا تصالحيًا مع أميركا والغرب خوفًا من التورط في حرب إقليمية شاملة.
ورغم ما تظهره إيران لوكلائها من دعم عبر تصريحات مسؤوليها لتمكينهم من امتصاص الصدمة وعدم الوصول إلى نقطة الانهيار الشامل، إلا أن قادتها يدركون أن المنطقة ماضية باتجاه تغييرات جيوسياسية وتحولات كبرى جزء منها على حساب مصالحهم، إذ باتوا يتعاملون مع خطة تقليص أدوار وكلائهم من فصائل الإسلام السياسي الشيعي داخل بلدانها كأمر واقع.
وعكس تلويح طهران بالسلام فيما يغرق وكلاؤها في الحرب طمأنتها للولايات المتحدة والغرب بأن الأمر لن يتحول إلى حرب شاملة، ما يعني استسلامها لفرضية تفكيك أذرعها عسكريًا وجعلها قريبة إلى السياسة أكثر من قربها إلى العسكرة، مقابل مكاسب تتضمن الحفاظ على قدر من المصالح في لبنان والعراق وسوريا ورفع العقوبات وتحول إيران على المدى المنظور إلى قوة إقليمية قريبة من الغرب، وإن واصلت رفع شعاراتها المعتادة المتعلقة بالثورة ونصرة القضايا الإسلامية.
وتخشى إيران من أن تكون هي القادمة في قائمة الاستهداف بعد القضاء على أذرعها ومخالبها، وتشير بعض التقديرات إلى أن إسرائيل قد تكون اتخذت قرار ضرب المفاعل النووي الإيراني، وما يجري تمهيد لهذه الخطوة الكبيرة، لذلك لن تتوانى عن العمل على تعافي حزب الله ومده بالمال والمؤن والسلاح ليشكل هيكلا قياديا جديدًا، بهدف استعادة توازن الرعب والتهديد بضرب محطات الطاقة والمياه والبنى التحتية في إسرائيل.
وبالنظر لخيبة الأمل المتبادلة بين إيران ووكلائها من المرجح ألا تكتفي طهران بالثقة المبذولة لحزب الله أو غيره لحماية أمنها بعد أدائه الكارثي على الأرض ما تسبب في جرح هيبتها في الإقليم والعالم، وهو ما يدفعها إلى الإسراع إما في حيازة سلاح نووي أو المضي في اتجاه الاستسلام للعاصفة عبر العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، حيث بات تعرضها لضربة إسرائيلية هو السيناريو الأقرب للتحقق، بعد ضرباتها الصاروخية في العمق الإسرائيلي مساء الثلاثاء.
وتنطوي التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط انطلاقًا من إضعاف نفوذ وحضور ميليشيا حزب الله على فرصة نادرة للمجتمع اللبناني بمختلف انتماءاته لاستعادة شكل الدولة الوطنية التعددية وبعث الحياة مجددًا في جسد لبنان ليعود وطنًا لكل أبنائه وعاصمة للمال والاقتصاد والسياحة والفن والثقافة.
وتشكل التحولات فرصة لإعادة لبنان إلى عمقه العربي بعد اختطافه وإلحاقه بالنفوذ الإيراني وعزله عن محيطه، ما يتطلب مرحليًا تقديم المساعدات وإعادة بناء ما دمره العدوان الإسرائيلي ومساعدة البلد المهم في النهوض من فشله وكبوته.
وتجسد هذه الحالة من التراجع على مستوى الجماعات الدينية وفسح الطريق للقوى الوطنية والعربية للحضور التمهيد المفترض لمسار جديد مختلف عما جرى بعد نكسة الجيوش العربية في عام 1967 حيث تمدد الإسلاميون في الفراغ العربي واستثمروا الهزيمة العربية، وما يجري الآن هو أشبه بالصعود الوطني والعربي المعاكس بعد النكسة غير المسبوقة التي ضربت قوى الإسلام السياسي في المنطقة.